محمد غازي الأخرس
لا أدري إن كانت علامة أو عرضاً يصادفه كل من يتجاوز الخامسة والخمسين، لكن الفكرة تراودني في الفترة الأخيرة بكثرة، إنها الإحساس بالدنو من خط النهاية، وعبوره إلى العالم الذي لا أدري ماهيته. شعور يغزو عقلي ومزاجي فيجعلني أتخيل اللحظة بتفاصيلها الدقيقة بغض النظر عن طريقة الموت، ببطء، مثل أضواء مسرح تتماهل بالانطفاء، يذوي كل شيء، وأفقد القدرة على الإحساس كما لو كنت على وشك النوم. أتخيلني عاجزاً، أو مطمئناً أكثر من كوني مستسلماً، لا أقاوم أو أتشبث بأي شيء. مثل أمي تماماً، حين أسلمت الروح بلحظات، كذلك أتخيلني، فأنا قدري، مؤمن بأن المصائر مرسومة في لوح القدر.
لا اليوم صرت كذلك بفعل التقدم في العمر، بل أنا هكذا دائماً.
في شهر آذار عام 1985، في خضم هجوم هور الحويزة، كنت في الثامنة عشرة حين وجدتني جالساً مع قاذفتي في حفرة على الساتر المطل على الهور. كنت مجرد رقم بين مجموعة من المگاريد علقوا في رقابهم أسماء تدل عليهم إذا عبروا خط النهاية. حدث الهجوم ليلاً، فهربنا فوق الساتر، من العدو الذي أمامنا، والعدو الذي خلفنا، فرقة الإعدامات. في نهار اليوم التالي، قتلني الفضول لرؤية خصمي الذي يريد قتلي، وكاد ذلك الفضول يودي بي حينها، أخرجت رأسي لأرى أي شيء، فإذا بصوت صفير يمرق قرب أذني. لم أفهم الأمر، لكنني شككت بأنها رصاصة عابرة. بعد دقائق عدت للتطلع بفضول طفل، فمرق الصفير ثانية. أخبرت قائد مجموعتي، (الساتة)، كما يسميها رفاقي، فضحك ولم يصدق. رفع هو الآخر رأسه فمرقت الرصاصة من فوقه، فهبط وهو يقول : ولكم صدك هذا قناص. بعد حين، حاولت التطلع للمرة الثالثة، فصاح بي وهو ينزلني من ياقتي " خايب شمالك تريد تموت!" لكم ارتعبت حينها من شبح الموت، لكن في الأخير، جلست واستسلمت، تاركاً قيادي بيد (انزو)، الطائر الذي سرق ألواح القدر في قصة الخليقة البابلية. غابت الأفكار وسكن كل شيء، مثل قلب دقّ، ثم دقّ، حتى تعب ثم هدأ.
بعد ثلاثة عقود وبضعة أشهر، عاودني الشعور نفسه وأنا أستسلم لمشرط الجراح وهو يشق فتحة في شرياني لعمل قسطرة قلبية. أسلمت قيادي للمقادير يومها وقلت لنفسي : هذا هو، 48 سنة خوش عمر، على الأقل أنا أفضل من أخي الذي عبر خط النهاية وهو في الخامسة والعشرين!.
قبلها بعشر سنوات، أيضاً وأيضاً، خفت ثم استسلمت حين انفجرت سيارة مفخخة على بعد خمسين متراً أمامي. طارت الأرض بأشيائها وضاقت الدنيا بما رحبت، فطأطأت رأسي تحت المقود، خسرت ارادتي، ولم أفعل سوى أن ضغطت بقدمي على "البريك" وكأنني أوقف السباق نحو الموت.
هذه الأيام، تراودني الفكرة نفسها، الموت، فهل الأمر مجرد عرض من أعراض عبور الخامسة والخمسين أم هو يأس أخير من حياة كانت عبارة عن قفزات بين حفر الخوف. لا أدري، لا أدري حقاً!.