فضاء المعرض الأخير

منصة 2023/06/26
...

  نصير الشيخ

المكان تتوزع جدرانه لوحات زيتية، وأخرٌتنتظُر أن تعلق على الألواح الخشبية.. ثمة روح تطوف هذا المكان، والحيرة تتوزع وجوه الحاضرين الثلاثة/ الصورة".
هذا مساء مغايرٌ والمكان تفوح منه رائحة الزيت وبهجة الألوان، لكن أية بهجة ظلت فهي اودعت سرها خارج القاعة، وراحت في اغفاءةٍ مع قطرات الندى المسائية على أغصان الآس في حدائقه.
روح الرسام تطوف أجواء القاعة وأضوائها تشتتُ رفيف أجنحتهِ، اللوحات المعلقة ترسلُ صداها فيرتد في القاعة حضوراً أليفاً ومفتقداً في اللحظة ذاتها. الاصحاب الثلاثة كل منهم أخذ حيزه الوجودي في وسطها. وجوههم أضاعت شيئاً ثميناً وأفلت من ايديهمُ حبل قارب أخذ منهم بعيدا.. بعيدا ذلك الرسام الذي أحبوه، ذلك الذي رسم وطناً بحجم الفرح والأمنيات ولون الدروب بخضرتهِ، ورسام الوجوه المطلةِ على غدٍ قد سُرق في ليل الحروب. تراتبية جلوس الحاضرين تزيد من حيرتهم هذا البناء الهرمي المسرحي والذي يشي بتوزيع الدور على كل واحد منهم. "ماجد الأميري" في أعلى الهرم ممسكاً زمنا مراوغاً بين أصابعه وحزن عراقي خفيض ينزُ من عينيه معانقاً أرضية القاعة، وكأنه يشير لاشعورياً.. إن.. يا أرض ترفقي بجسد الأميرالذي أنغرس فيكِ. والذي يسندُ ظهره على صاحبه متوسطاً هرم الحيرة "عصام حسين" ينظر بترقب نحو باب القاعة، متأملاً شيئاً سيحدث وربما رواده اللحظة، هل سيعود الأمير يعلق معنا ماتبقى من لوحاته كي يكتمل المعرض/ المشهد. مرفقاً حضوره بأبتسامة عهدناها منه كل هذا العمر؟ لكن عينيّ عصام تقطع الشك باليقين.. أيها الزمن لن تعود أبدا، ولن يمرعبر باب القاعة الزجاجي أي ظلٍ أو حفيف. أما من افترش الأرض واسند عمره واتكأ على يده اليمنى، حاملا حزنه الخفي ومكمن صرخته في أعماق جسده النحيف، فقد اطلق نظرة حيرى تجاه كوة ٍفي سقف القاعة، لكأنه يرقب بدهشة رفيف أجنحة الأمير وهي تحلق في طواف سرمدي، مبتهجة بحضورها اللوني، مثخنة بدمها الزكي وغيابها الأبدي. اللوحة الغارقة في دكنتها وزرقة عوالمها اختزلت حيرة الأصحاب الثلاثة الحاضرين في هذا المحفل اللوني. ثمة طائر أبيض يشق فضاءهُ نحو مصدر النور، لكأن روح الأمير خرجت من إطار اللوحة وظلت محلقة في محيط المبنى. معانقة سماواتها تنظر في صمت ودهشة للوحاتها الزيتية التي نطقت عمرا بحلمها وأمنياتها وابداعها. هبط المساء على أغصان الآس في رواق المبنى، اللوحات معلقة على "بارتشنات" المعرض، والزمن وساعاته يتوقفان عن السابعة من مساء 8 / 11/ 1991. تحلقُ الروح عاليا، والقارب ينأى بعيداً بروح الأمير وألوانه وأحلامه نحو الأبدية.
"ماجد الأميري" عابراً نحو نهايات الشمال الأفريقي، حاملاً ذكرياته وحقائبه وصرة من حكايا جدته وألواحا من اساطير وادي الرافدين ليستقر في المغرب العربي.
و عصام حسين استقل أقرب حافلة بعد موعدنا مشرعاً نحو مطارات الدنيا، ليحتفل وحيدا هناك في مدن السويد ولندن ويشعل شمعة نذراً للأحبة.
والذي افترش الأرض، التحف القصيدة رواقا ومعبدا يتجلى فيهما من سلافة الشعروالكتابة، حاملا صليبه عبر دروب الوطن المثخن بجراحه.