لماذا شغلت الانتخابات التركيَّة العالم؟

بانوراما 2023/07/03
...

 سارة دادوش ومريام بيرغر 

 ترجمة: أنيس الصفار

في الشهر الماضي، فاز الزعيم التركي رجب طيب إردوغان بدورة رئاسية جديدة عبر انتخابات مثلت أخطر تحد سياسي له منذ النصر الكاسح الذي أحرزه حزبه أواخر انتخابات العام 2002 ورفعه بقوة إلى موقع السلطة. ففي يوم 14 أيار ادلى عشرات الملايين من الناخبين بأصواتهم في جولة أولى فاز فيها اردوغان بنسبة 49 بالمئة من الأصوات مقارنة بنسبة 45 بالمئة حصل عليها كمال كليجدار أوغلو زعيم تحالف المعارضة. ولأن اي من المرشحين لم ينجح في اجتياز عتبة 50 بالمئة دعي إلى اجراء انتخابات إعادة بعد اسبوعين من الجولة الأولى.
أمور كثيرة كان مصيرها معلقاً بنتائج تلك الانتخابات. ففي ظل حكم اردوغان توسع دور تركيا بشكل كبير كوسيط بين القوى على الصعيدين الاقليمي والدولي، رغم ضيق الصدر المتزايد الذي أخذ يبديه اردوغان تجاه المعارضة، لذا كانت نتائج الانتخابات تخضع للرصد عن كثب سواء في الشرق الأوسط أو مختلف انحاء العالم.


شدّة المنافسة

في الفترة التي سبقت 14 أيار اظهرت استطلاعات الرأي التركية أن التنافس بين الكتلتين الرئيسيتين سيكون شديداً للغاية، بينما اظهرت استطلاعات رأي اخرى تقدماً بسيطاً  لكليجدار أوغلو. 

بيد أن الشكوك بخصوص قدرة كليجدار أوغلو على إحداث التغيير الحاسم استمرت، فالرئيس رجب طيب إردوغان هو أطول زعماء تركيا بقاء في المنصب متخطياً بذلك حتى مصطفى كمال اتاتورك مؤسس الجمهورية التركية الحديثة. إردوغان، البالغ من العمر 69 عاماً، يكون في أفضل حالاته أثناء قيادته حملة انتخابية وشحذه التأييد الجماهيري خلال المراحل النهائية للانتخابات، وأغلب الاحيان تراه يلقي عدداً من الخطب في يوم واحد.

قاد اردوغان تركيا منذ أن أصبح رئيساً للوزراء في 2003، وهو المنصب الذي بقي يشغله حتى العام 2014 عندما تولى منصب رئيس الجمهورية. وفي العام 2017 نجح في توسيع سلطاته الرئاسية من خلال عملية استفتاء أسفرت عن إقرار النظام الرئاسي التنفيذي بديلاً للنظام البرلماني، كما ألغت منصب رئيس الوزراء.

عملية الاستفتاء تلك منحت اردوغان سلطة اصدار القرارات من دون الحاجة إلى موافقة البرلمان، لذا عدّ خصومه ذلك تعزيزاً لسلطة حكمه ضد خصومه.

على مدى السنوات التي تلت بدأت حكومة اردوغان تتحرك فيها لفرض القيود والضوابط على الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، تخلل ذلك سعيها إلى حظر موقع "تويتر" خلال العام 2014 في اعقاب فضيحة سياسية. من بعد ذلك تسارعت وتائر ما سمي "الهجوم على الصحافة الناقدة" بعد محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف العام 2016، وفقاً لتقارير "هيومان رايتس واتش"، واليوم يتعرض عشرات الالاف من الأشخاص في كل عام للتحقيق بتهمة ارتكاب جريمة "إهانة" الرئيس. ومع حلول العام الماضي مرر قانون يبيح فرض عقوبة السجن على كل من يثبت عليه نشر معلومات مضللة تؤدي إلى بث الخوف والقلق العام.

رغم ذلك يحظى اردوغان بقاعدة كبيرة ووفية من المؤيدين حاول تعزيزها هذا العام من خلال طرح حزمة سريعة من المغريات الاقتصادية التي شملت تخفيف الضرائب وقروض الرهن العقاري المخفضة ودعم الطاقة والتعهد بعدم زيادة الرسوم على الطرق والجسور.

في أعقاب الهزتين الارضيتين اللتين وقعتا مطلع شهر شباط، وتسببتا بتدمير مدن على امتداد الجزء الغربي من البلاد ومقتل أكثر من 50 ألف شخص في تركيا وسوريا المجاورة، تعرضت الحكومة التركية لهجوم ناري من قبل ضحايا الزلازل بسبب بطء نشرها للمستجيبين الأوائل وفشلها في فرض معايير البناء السليمة. قال كليجدار أوغلو أن انهيار كل هذا العدد العديد من المباني كان نتيجة سياسات الربح السريع الممنهجة، كما اعتبر اردوغان مسؤولاً بشكل شخصي عن عدم تهيئة البلاد لمواجهة كارثة حذّر علماء الزلازل من احتمال وقوعها منذ أمد طويل. لكن عندما جاءت جولة انتخابات 14 أيار فاز اردوغان في معظم المحافظات الاحدى عشرة التي أصابها الزلزال، والتي كان اقبال الناخبين فيها اقل بعض الشيء بشكل 

عام.

كان اردوغان هو الآخر يرد على خصومه بالمثل، فمع مطلع شهر ايار اتهم حزب المعارضة بالوقوف مع الارهابيين. قال حينها: "مطلبهم هو تسليم البلد إلى الجماعات الارهابية التي يتحكم بها الامبرياليون." في اشارة إلى "حزب الشعوب الديمقراطي" المؤيد للكرد الذي يتهمه اردوغان بوجود صلات له مع الجماعات الكردية المتشددة.

يهاجم اردوغان ايضاً مجتمعات المثليين والمتحولين جنسياً التي تحظى بتأييد المعارضة. وأثناء أحد التجمعات أعلن اردوغان بصراحة مناهضته لهذه المجتمعات ضمن محاولة للتودد إلى قاعدته بين اوساط الناخبين المحافظين.


ضد من خاض اردوغان الانتخابات ؟

بمواجهة اردوغان كان هناك تحالف مؤلف من ستة أحزاب معارضة، وقد اختار هذا التحالف كليجدار أوغلو مرشحاً لمنصب الرئاسة.

في العام 2010 أصبح هذا الموظف المدني السابق، البالغ من العمر 74 عاما، زعيماً لحزب الشعب الجمهوري، وهو حزب المعارضة الرئيسي. ورغم فشله السابق في قيادة حزبه وتحقيق الفوز ضد حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه اردوغان في الانتخابات البرلمانية فقد أحسن استغلال وسائل التواصل الاجتماعي خلال هذه الحملة في إعادة طرح نفسه على الناخبين.

لكن مع اقتراب انتخابات الاعادة للجولة الثانية بدا واضحاً ان من الصعب على المعارضة تحقيق الفوز بينما اردوغان، الذي ازداد جرأة، لا يزال ممسكاً بدفة مؤسسات الدولة ووقوف وسائل الاعلام المحلية بدرجة كبيرة إلى جانب من يمسك بزمام السلطة.

اعتمدت كتلة كليجدار أوغلو على دعم ناخبي المعارضة الذين حققوا الانتصارات خلال انتخابات رئاسة البلدية عبر المدن الكبرى- لا سيما اسطنبول- في العام 2019 حين هزم أكرم إمام أوغلو عضو حزب الشعب الجمهوري المرشح الذي اختاره اردوغان.

عيّن كليجدار أوغلو النجم السياسي الصاعد إمام أوغلو مرشحاً له كنائب للرئيس، إلى جانب عمدة أنقرة منصور يافاز، وهو ايضاً من حزب الشعب الجمهوري. كان إمام أوغلو محكوماً عليه بالسجن لفترة تتجاوز السنتين بتهمة توجيه اهانات لمسؤولين عموميين في محاكمة اعتبرت على نطاق واسع متأثرة بدوافع سياسية، لذا كان يواجه إمكانية المنع من تولي أي منصب عام إذا ما أقرت المحكمة الحكم.

رغم تمكن أحزاب المعارضة التركية، المشهورة بتناحرها، من تنحية خلافاتها جانباً خلال فترة الاعداد لانتخابات الاعادة فإن فوز كليجدار أوغلو كان سيملي عليه التعامل مع المصالح المتصارعة تحت مظلة تحالفه الذي ضم قوميين وأسلاميين وعلمانيين وليبراليين.

ركز كليجدار أوغلو حملته على القضايا التي كانت سبباً في اضعاف شعبية اردوغان، فوعد بأيجاد حلول لأزمة غلاء المعيشة وحماية المساواة بين الجنسين واعطاء الأولوية لسيادة القانون من خلال اصلاح النظام القضائي الذي يقول المنتقدون انه بات يسخر من قبل الحكومة كسلاح لاستهداف خصومها.

وعد كليجدار أوغلو ايضاً بالعودة إلى السياسات الاقتصادية التقليدية الحكيمة واستعادة نظام الحكم البرلماني ومنصب رئيس الوزراء وتقليص سلطات رئيس الجمهورية.


أوروبا والناتو وتركيا

ربما لم تكن هناك دولة أوروبية ترقب الانتخابات التركية وتتسقط أخبارها عن كثب مثل السويد، التي يبقى طلبها للتحول إلى عضو في حلف الناتو مرهوناً بيد اردوغان.

ففي شهر آذار صوتت تركيا بالسماح لفنلندا ان تنضم إلى التحالف العسكري المذكور، وبها تضاعفت الحدود البرية لحلف الناتو مع روسيا مرتين. إلا أن اردوغان دائب على عرقلة طلب السويد للعضوية مشيراً إلى رفض ستوكهولم اخراج من يصفهم بـ "إرهابيي حزب العمال الكردستاني" المتشدد من أراضيها.

في مقابلة لمجلة "بوليتيكو"مع "أونال جيفيكوز" كبير مستشاري كليجدار أوغلو للسياسة الخارجية في شهر آذار قال جيفيكوز أنه لن يعترض سبيل طموحات السويد فيما يتعلق بحلف الناتو، قال: "عندما تقحم مشاكلك - ثنائية الأطراف - في شؤون منظمة متعددة الأطراف مثل الناتو فسوف تخلق نوعاً من الاستقطاب بين بلدك وبقية اعضاء الناتو."

وعد كليجدار أوغلو ايضاً بإحياء علاقات تركيا المتوترة مع الاتحاد الأوروبي، رافعاً بذلك الآمال بانهاء حالة الجمود في محادثات الانضمام المتوقفة منذ أمد طويل والتأكيد على أهمية تعميق العلاقات الاقتصادية والتعاون بشأن الهجرة واللاجئين.

حدود تركيا الممتدة مع سوريا جعلت منها منفذ فرار طبيعي لمن لم يعودوا يطيقون البقاء في سوريا بعد أحداث 2011، وعلى هذا أمست تركيا اليوم مأوى لأربعة ملايين نازح وطالب لجوء من السوريين.

كان السوريون موضع ترحاب في تركيا إلى حين، غير أن الرأي العام تغير وانقلب عليهم حتى أصبحوا هدفاً شائعاً للسياسيين القوميين المتطرفين الذين يحاولون حرف اللوم بخصوص الانكماش الاقتصادي الذي يعاني منه بلدهم وإلقاء أسبابه على اللاجئين السوريين. وقد انتقد اردوغان الاتراك على مهاجمتهم اللاجئين السوريين، لكنه اضطر للانحناء هو ايضاً أمام الضغط الشعبي وأعطى وعوداً بإعادة توطين مليون سوري في بلدهم في المناطق التي تخضع لسيطرة المعارضة.

حتى كليجدار أوغلو أعلن أنه سيحاول اصلاح سجل تركيا في مجال حقوق الإنسان، وأعاد تكرار النغمة نفسها التي ترددت في سياسات إردوغان بخصوص اللاجئين حيث قال أن على الاتحاد الأوروبي توفير الأموال للمتعاقدين الأتراك حتى يعيدوا بناء بعض مناطق سوريا من أجل إعادة التوطين. "وما لم يؤمن الاتحاد الأوروبي تلك الأموال فإنه (أي كليجدار أوغلو) سيكون آسفاً ويفتح الباب للاجئين كي يذهبوا أنى ارادوا"، على حد تعبيره.


الحرب في أوكرانيا

عقب الغزو الروسي لأوكرانيا في العام الماضي بادرت تركيا على الفور بعرض وساطتها واستضافت جولة اولية من المحادثات الدبلوماسية بين موسكو وكييف، وهي مساع سرعان ما انطفأت مع تصاعد حدة المواجهة. وفي الصيف الماضي قدمت تركيا المساعدات واستضافت جلسة توقيع اتفاق بوساطة الامم المتحدة لإعادة ارسال شحنات الحبوب التي سبق ان اوقفتها روسيا.

اشتهر إردوغان بالموازنة بين أفعاله، فهو قد قاوم الانضمام إلى العقوبات الغربية على روسيا، ولكنه في الوقت نفسه سمح ببيع أوكرانيا طائرات مسيرة استخدمت ضد أهداف روسية ظهرت عبر تلك الحرب. أكثر من ذلك ان إردوغان مستمر في استيراد النفط الروسي، وعندما حل شهر آذار ذهب بعيدا إلى حد الاقتراح على الرئيس بوتين القيام بزيارة لأول مفاعل نووي تركي خلال شهر نيسان، لكن بوتين اكتفى بالمشاركة عبر رابط الفيديو بدلاً من ذلك.

أما كليجدار اوغلو فقد تعهد بأنه اذا ما تم انتخابه رئيساً فإنه سيحافظ على استمرار سليم وذي مصداقية للعلاقات التركية الروسية، مع مواصلة العمل كوسيط والسعي لتمديد صفقة الحبوب فضلا عن اعطاء الأولوية لوضع أنقرة كعضو ضمن حلف الناتو.


عن صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية