بيت الطرب

الصفحة الاخيرة 2023/07/09
...

محمد غازي الأخرس
وفي الأمثال قالوا: بيت الطرب ما خرب، يعنون أن البيت الذي يكثر فيه الطرب والغناء والرقص سيظل معموراً بالحياة، وهو معنى يحتمل الإشارة إلى ضده، وهي صيغة من "الحسجة" توجد في اللغة بكثرة. 

تقول مثلاً لأحدهم حين يأتي بفعل سيئ: عاشت ايدك، بلكنة متهكمة، تعني : كسر الله يدك، وتقول أحياناً: والله خوش! إذا أردت معنى الاستنكار الشديد لفعل ما. 

وفقاً لهذا، نتهكم ممن يقضي حياته لهواً ولعباً بالقول: بيت الطرب ما خرب. وقد يكون ذلك كناية عن فكرة أن الله أحياناً يمد للاهين الحبال حتى يأمنوا العقاب فيزدادوا ثمالة بملذات الدنيا، وبالنتيجة، تمتلئ دفاترهم  بالسيئات. بالمقابل، يجري العكس مع سواهم، فمجرد أن يرتكبوا إثماً، يتبين عليهم أثره وينعكس على حياتهم سلباً، وقد قيل لأمثال هؤلاء : الحرام ما يوكع لهم. 

أعود إلى مربط فرسي لأقول إن مفردة الطرب هذه تحتمل معاني كثيرة، فهي في التداول اليومي المعتاد ترتبط بالغناء، كأن يطرب المرء لموال بصوت رياض أحمد أو داخل حسن أو أداء سلطاني كالذي تأتيه نجاة الصغيرة أو فايزة أحمد.

وعلامة الطرب هنا هو التطوّح والتحليق الروحي لدرجة أن ينسى المرء نفسه ومن معه، وهو ما أنا عليه دائماً. تراني حين أضع الـ(اير بود) في أذني، سرعان ما أتحول إلى رجل طروب، أتمايل وأروح في عالم آخر، ثم أنسى كل شيء. بل إنني أحياناً أقضي ساعات مع المطربين، فأهمل بحثاً أكتبه أو موعد نوم ملزم به. 

وفي مرات ومرات، ألاحظ أن الأولاد يمرقون من قربي مبتسمين لحالي، بالضبط مثلما كنت أفعل أنا مع أبي حين أراه يتمايل في غرفته على صوت ناصر حكيم أو محمد جواد أموري. 

هذا هو المعنى الشائع للطرب في حين يقول ابن قتيبة "إنما الطرب خفة تصيب الرجل لشدة السرور أو لشدة الجزع"، ويستدل على ذلك بقول النابغة الجعدي : سألتني جارتي عن أمتي ..وإذا ما عيّ ذو اللب يسأل.. سألتني عن أناس هلكوا.. شرب الدهر عليهم وأكل.. وأراني طرباً في إثرهم.. طرب الواله أو كالمختبل. 

إنما الأعجب من ذلك ورود صيغة (طرب) بتشديد الراء، بمعنى صاح، وهناك من يقول إن الطرب هو الحركة، أو الشوق، أو هو مد الصوت وترجيعه. وعند سميعة الغناء، ثمة فرق شاسع بين المطرب والمغني، فالمغني هو من يؤدي غناءً دون تطريب، أما المطرب فهو الذي يغني فيطرب ويحلق ولا يلتزم بلحن ثابت، ويطلقون على هذا الطرب (سلطنة)، من قبيل ما يفعله صباح فخري ومطربو الريف العراقيون، وقراء المقام، 

وبعض مطربي مصر ولبنان، ولمن يبغي الثمالة طرباً فليسمع أبا بكر سالم اليمني، أو وديع الصافي اللبناني أو يوسف عمر العراقي، أو محمد عبد الوهاب المصري، وكلهم ماتوا رحمهم الله، وغفر لهم ولنا، نحن الذين نطرب فرحاً وجزعاً، فنتمايل حتى نكاد نطير.