الباحثون عن الفرديَّة في عالمٍ شائك
صفاء ذياب
ربّما يرى البعض أن البحث عن الأنا والفردانية، قد تكرر كثيراً في السنوات الأخيرة، لا سيّما وأننا نشرنا موضوعاً أيضاً في هذا المفهوم، أو لنسمها (الفلسفة) الجديدة التي يعمل الشباب على ترسيخها بشكل مباشر.
غير أننا في كل مرّة نقف أمام حالات مختلفة لفهم التحولات التي تطرأ على حياة المجتمع، لا سيّما الشباب فيه، الذين غالباً ما يكرّرون: هذا الأمر لا يعنينا!.
هذه الجملة تشبه تماماً ما قاله قابيل حينما سأله الله عن مكان أخيه، مجيباً في لحظتها "هل أنا حارس أخي؟".
وبالعودة لزيغمونت باومان، عالم الاجتماع الإيرلندي، الذي خصّص كتاباً عن الفردانية ومجتمعها، ومن ثمَّ تناول هذا المفهوم في أكثر من كتاب آخر له، فهو يعود في تحليل جملة قابيل تلك إلى فيلسوف الأخلاق ايمانويل ليفيناس الذي علّق على كلام قابيل: كلّ الفجور قد بدأ من سؤال قابيل الغاضب.
بالطبع أنا حارس أخي.
وأنا شخص أخلاقي ولا أزال كذلك طالما أنني لا أطلب مصلحة شخصية لأكون كذلك.
وسواء اعترفت بذلك أم لا، فأنا حارس لأخي لأنَّ رفاهية أخي تعتمد على ما أفعله أو الامتناع عن فعله.
وإنَّني شخص أخلاقي لأنَّني أدرك هذا الاعتماد وأقبل تحمّل المسؤولية المترتّبة عليه. وفي اللحظة التي أشكّك في هذا الاعتماد، وأتساءل كما فعل قابيل عن الأسباب التي تجعلني أهتم، أتخلى عن مسؤوليتي ولن أعد أخلاقياً. فاعتماد أخي هو ما يجعلني شخصاً أخلاقياً.
وهكذا ينهض الاعتماد والأخلاق معاً ويسقطان معاً.
لم يفكّر باومان؛ وليفيناس قبله، في القتل أو حماية الأخ مثلما فكّرا في أننا نعيش في عالم واحد، عالم تجهضه الفردانية، وتسعى لتفكيك روابطه وتشتّت الأفراد فيه. ولهذا يؤكّد باومان أن حكم ليفيناس هذا تكرار عبارات مختلفة هي نواة لآلاف السنين للتعاليم اليهودية المسيحية التي تغذّي فهمنا المشترك للإنسانية والإنسان المتحضّر.
وما أوضّحه ليفيناس جعل الحاجة للآخر، والمسؤولية عن تلبية تلك الحاجة، حجر الزاوية في الأخلاق، وقبول تلك المسؤولية ضمن سيرة الشخص الأخلاقي.
الانتماء والهوية
ويتساءل أحد الباحثين في مؤسسة رواسخ، في تقرير نشرته قبل مدّة: إلى ماذا ينتمي الشباب العربي الآن؟ ما القضية التي يعيش الشباب من أجلها؟
هذان التساؤلان يجعلاننا نبحث بالفعل عن فحوى حياة الشباب اليوم، وما الذي يريده من أجل بناء مستقبل قريب، مستقبل يجعلنا نعيش حالةً من التآخي لا التفكّك.
مضيفاً: في ستينيات القرن الماضي كانت مصطلحات مثل الثورة والعدالة الاجتماعية وتغيير النظام
وصراع الطبقات والكفاح ضد الاستعمار والقومية العربية شائعة للغاية.
وفي ظلِّ هذه القضايا عاش جيل الخمسينيات والستينيات في كنف التنظيمات والنقابات والمؤسسات اليسارية والقومية نهراً طويلاً من الزمن، يناضلون ويكافحون ويكابدون من أجل تحقيق أهدافهم الجماعية المشتركة.
ثمَّ بعد ذلك توالت أحداث إسلامية غيّرت المزاج العام العربي، بدأت بالثورة الإيرانية ثمَّ ما عُرف بعد ذلك بالجهاد الأفغاني. ومذابح البوسنة والهرسك والصحوة الإسلامية في الخليج العربي. حتى جاءت سنة 2000 لتنطلق شرارة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ويظهر مدى الزخم الهائل لهذه الفترة التاريخية. فانطلق الشباب إلى نصرة فلسطين. وهبّوا من أجل التعبير عن غضبهم إزاء الانتهاكات الإسرائيلية لأهل فلسطين. ومع بدايات الربيع العربي كان الشباب لا يزالون يحلمون بأهداف جماعية تتعلّق بالتغيير وإصلاح الأوضاع القائمة والعدالة الاجتماعية. والآن يبقى السؤال إلى ماذا ينتمي الشباب العربي؟
ما القضية التي يؤمن بها الشباب والفتيات؟.
تحوّلات الفرد العربي
وبالعودة لهذين السؤالين، يمكننا أن نسأل مجدّداً: أين ذهبت القضايا المصيرية التي كان الشباب مندفعين لها؟ وهل يمكن أن نبحث عن قضايا مصيرية؛ حتى وإن كانت غير كبيرة، لكنها تعيدنا إلى واقعنا الذي بدأنا ننسلخ عنه بطرائق مختلفة؟.
ربّما ما كان يوزّع كمنشورات في خمسينيات وستينيات القرن الماضي في الشوارع من أجل حثِّ التحرّك عليها، كالقضية الفلسطينية وحقوق المرأة والدستور وحقوق الفرد وغيرها أصبحت الآن توزّع كمنشورات أيضاً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فمنشور على الفيسبوك أو تويتر لا يختلف كثيراً عن الأوراق التي كانت ترمى في الشوارع ويقرؤها المواطنون، غير أن عدد المواطنين الذين يقرؤون المنشورات صار بالملايين وليس بالعشرات مثل السابق، لكن ما يحدث أسوأ بكثير، وكأن هذه المنشورات أصبحت ترفاً وليست دعوة لاختيار حياة أفضل!
ويرى باحثون أن الكثير من الشباب اتجهوا إلى الحياة الشخصية والطموح الذاتي والمهارات الفردية، وأصبحت هناك حالة من العزوف عن العمل السياسي والانعزال عن الحياة الجماعية.
ومن ثمَّ استبدلت كلمات العدالة الاجتماعية والتغيير والنضال والكفاح بكلمات مثل الطموح والسعادة و(الكارير) والصحة النفسية والشغف والنجاح، وهذا ما فعلته كتب التنمية البشرية التي غالباً ما تسطّح عقول الشباب لا أن تعيد بناءها.
وصار الهدف هو الخلاص الفردي لا الخلاص الاجتماعي. فبحسب الباحث جون التمان فإنَّ ظاهرة الفردانية تتسارع في الشرق الأوسط عبر مصطلحات صغيرة لم تعد مقيّدة بالروابط الاجتماعية التقليدية. هؤلاء يتجهون نحو تنظيم اجتماعي ذرّي.
فالشباب أكثر قابلية للتنقّل. والأسر مفكّكة بطريقة أكثر مما كانت من قبل. والمزايا الاقتصادية تحصل عليها من خلال عملك واجتهادك لا من خلال انتمائك الاجتماعي.
ما هذه التغيّرات؟
منذ بدايات القرن العشرين كان العالم العربي زاخراً بالحركات الاجتماعية الواسعة. كان هذا الجيل يزخر بالتنظيمات والنقابات والتعاونيات والجمعيات.
الكثيرون كانوا يتحرّكون من أجل قضايا تتجاوز إطارهم الذاتي وحياتهم الشخصية. أحزاب سياسية وجمعيات خيرية، وحركات إسلامية ويسارية، ومؤسّسات أهلية ووقفية.
وحتى في أبسط الأمور كانت الأسرة الصغيرة تجتمع على طاولة الغداء يوميّاً، تتشارك أحداث يومها وتجتمع معاً في مناخ أسري دافئ.
حتى إذا جنَّ الليل تسامروا وتحدّثوا وربَّما زاروا أقاربهم الذين كانوا يسكنون بجوارهم في منطقتهم، وكان لكلِّ أسرة كبير يفضُّ النزاعات ويحكم في الخلافات ويُرجع إليه طلباً للمشورة والحكمة. وكان بمثابة القائد في مواجهة الأحداث والنوازل، فقد كان شخصاً مسموع الكلمة رفيع القدر نافذ الحكمة وقور الهيئة.
وكلمته لها سلطة على أفراد الجماعة جميعاً. هذا المناخ صار مفقوداً اليوم. فبسبب شيوع الفردانية يأكل الآن عدد كبير من الشباب والشابات وحدهم في غرفهم الخاصة. ولا يلتقون بأهلهم إلَّا في صدفة عابرة.
لا يعلم أهلهم شيئاً عنهم. يبقون خارج البيت طوال اليوم. وإذا اضطرّوا للجلوس في بيوتهم، ينكمشون حول هواتفهم وحساباتهم على وسائل التواصل.
ومن المضحك أن أحد الأصدقاء تحدّث خلال أيام الحجر بسبب جائحة كورونا، معلّقاً: الآن عرفت أن أهلي أناس طيبون، ويمكن أن يعاش معهم.
هذه المزحة شكّلت فجوة كبيرة وشرخاً في أرواحنا، فلم نعد نفهم حتّى أسرنا التي نعيش معها، لا نعرف مشكلات كل فرد فيها، ولا نعبأ بما يطرأ على الجماعة ككل، وأصبحنا منشغلين بأنفسنا، وبتوافهها، فكل ما نعيشه مشكلات تؤججها وسائل التواصل الاجتماعي وليس الواقع الذي نعيشه بالفعل.
ومن هنا لجأ الناس إلى المهن التي تطوّر المهارات الشخصية، مثل مدرّب الحياة ومتخصّص التنمية البشرية والمعالجين النفسيين وميسّر المنح الأجنبية والدورات التعليمية ومدرّبي صالات الألعاب الرياضية.
وفي الجانب الآخر، هجر الشباب الأحزاب السياسية والأعمال التطوّعية والجمعيات الخيرية والنضال الحقوقي والكفاح الاجتماعي.
ولسان حال الكثير من الشباب يقول: لماذا أضيّع وقتي في النقاشات السياسية وأنا بمقدوري أن أستغلّها لصالح نفسي؟
ولماذا أنفق عمري في الأعمال التطوعية والمؤسسات الأهلية، ما يمكن استثماره في تطوير مهاراتي الفردية؟ لنلقِ الأهداف الجماعية إذاً وراء ظهرنا. إيذاناً بظهور عصر الفردانية الجديد.
عصر الأنا، الأنا المتحررة من الأسرة والقبيلة والعشيرة، الأنا المتحرّرة من الأحزاب والدول والأنظمة، الأنا المتحررة من العادات والتقاليد والأعراف. إنها الفردانية، حسب ما يؤكّد تقرير مؤسسة رواسخ، حالة الفرد النفسية وشعوره بالهوية الشخصية طبقاً لأهداف الفرد وقيمه التي يصوغها لنفسه شخصياً، أو بكلمات الباحث الهولندي خيرت هوفستيدي الشعور بالاستقلالية عن الجماعات والمجموعات والتنظيمات والأسر وأي ارتباطات جماعية أخرى.
الإعلام وأثره
منذ انطلاق وسائل التواصل الاجتماعي، تحوّل الإعلام إلى وسيلة جديدة لتفتيت المجتمع من خلال البحث عن التفرّد الذي يبحث عنه الفرد نفسه، فأغلب الرسائل الإعلامية ثقافة تعزّز الفردانية في نفوس الشباب والشابات. ويمكننا قراءة هذه الرسائل حتى في المواد الإعلامية الترفيهية.
وأحد أبرز هذه الرسائل يتجلّى في أفلام الأبطال الخارقين التي تعدُّ إحدى ركائز هوليوود منذ تأسيسها إلى اليوم. هذه النوعية من الأفلام توضّح هذا الاتجاه الفرداني بشكل قوي، فهؤلاء الأفراد الأبطال تصوّرهم الكاميرات بأنَّهم لا يخضعون لأيّة منظومة خارجة عن شخصياتهم، مستقلّين عن الأعراف الاجتماعية، سعياً إلى تحقيق أهدافهم التي رسموها لأنفسهم حتى لو عارضت أهداف الجماعة والبيئة من حولهم.
كما أن البطل هو قدوة في ذاته وهويّته تتحقّق عبر زيّه الخاص وأسلوبه الخاص وطريقة تعبيره الخاصة وأفكاره الخاصة، لا عبر الخضوع للجماعة أو تحقيق هدف مشترك مع المجتمع أو الاندماج مع التقاليد والقيم السائدة.
وفضلاً عن هذه الأفلام، ومنها أفلام الإنيمي، هناك أغانٍ كثيرة تعزف على وتر الفردانية بأشكالها المختلفة، وتبثُّ عبارات تعزّز من انتماء الفرد لذاته فحسب من دون الانتماء لأيّة جماعة أو لأي شخص آخر وتعظّم من قيمه الفرد وخياراته الشخصية، داعين إلى الاقتراب من ذات الفرد والابتعاد عن أي انتماء جماعي آخر.
وبالتالي بدأ الشباب نحو التأويل الشخصي للنصوص الدينية عبر الانطباع والذوق الشخصي والفهم الذاتي، إذ يحاول الفرد دائماً تشكيل نظرته الخاصة عن الدين بعيداً عن أية أحكام سُجّلت في المدونات الفقهية أو تقارير نقلها العلماء والأصوليون وعلماء الحديث.
وهنا نعود لتساؤلات تم طرحها في البداية، كيف يمكننا أن نعيد الفرد إلى الكيان؟ هذا التساؤل سيبقى مفتوحاً دائماً، حتى نبدأ معاً في البحث عن الروابط الجديدة التي تمكّننا من إعادة بناء أنفسنا أولاً، ومجتمعنا ثانياً.