قليل الخير كثير !

الصفحة الاخيرة 2019/04/27
...

 جواد علي كسّار
رجل شهم من أبناء السماوة، قذفته محنة السياسة بعيداً عن بلده، فعاش ولا يزال في أميركا، يعمل موظفاً في شركة أميركية لبحوث الهندسة الإلكترونية، قسم التعليم والتدريب المهني، جاء بزيارة إلى مدينته، لكنه قبل مجيئه دفع بحاوية معونات ضخمة، للتلاميذ المحتاجين ومدارس الأحياء الفقيرة، تحمّل القرطاسية ولوازم التعليم، والملابس وألعاب التلاميذ. بانتظار وصول الحمولة، قضى السماوي النبيل د. باسم عبوسي وقته في الندوات وفتح الدورات، ثمّ بادر بنفسه قيادة حملة لتصليح «رحلات» المدارس، واستطاع بمبادرة فردية جلب «200» رحلة، لمدرسة كان طلبتها يفترشون الأرض. هذا في السماوة.
في الكوفة أطلق شاب كوفيّ مبادرة فردية لتزيين الطريق الرابط بين مرقدي الشهيد مسلم بن عقيل والشهيد ميثم التمار، وتحويله من شارع ترابي قاحل يثير القرف والاشمئزاز، إلى طريق ينبض بالحيوية ويضجّ بالحياة، فقد غرس على طرفيه أشجار النخيل، وزيّن الأرصفة بالأشجار والورود، ووضع نافورة ومجسّمة خطّ عليها: «الكوفة كنز الإيمان»، مع أرضية مزدانة بثيّل ناصع الخضرة، كلّ ذلك من ماله الخاص، وبجهده الشخصيّ النبيل المثابر، حيث أحيا الطريق ما بين المرقدين، بمبلغ لم يزد على ثمانية ملايين دينار، وبحسب أحد المعلقين من «الخبثاء»، ذكر لو أنَّ دوائر الدولة تبنّت المشروع، لكلف (80) مليون دينار، وربما أكثر!
مع أنَّ هذا الشارع بين المرقدين لا يزيد طوله على مئتي أو ثلاثمئة متر، إلا أنني أعترف شخصياً بأنني كنت أعزف عن زيارة ميثم التمار، حين أذهب إلى مسجد الكوفة ومرقد مسلم بن عقيل، لطابعه الترابي العثر، الذي يثير النفرة ويبعث على الاشمئزاز، لكن بعد أن وصلتني صور الطريق المعبّد الآن بالأشجار والأزهار والخضار، بفضل مبادرة هذا الشابّ الكوفيّ المثابر الغيور، أجد نفسي في شوق مضاعف لزيارة مرقد الشهيد ميثم التمار، ورؤية هذه المنطقة عن كثب، وهي تعبق بتأريخ مثقل بالذكريات، حافل بالمواقف الجسام. هذا في 
الكوفة.
الأروع من ذلك وفي موقف حضاري إنسانيّ دينيّ نبيل ينضح بالمروءة، يوصي المرحوم عبد الله الغزالي أولاده قبل أيام من وفاته بالسرطان، إلغاء مراسم العشاء، الذي غالباً ما يأتي مصحوباً بدوافع الخجل والضرورة الاجتماعية، وأحياناً بالمباهاة والرياء، ليتحوّل ثمن مراسم الفاتحة والطعام، إلى شراء أدوية لمرضى السرطان، تُقدّم للمحتاجين المبتلين بالمرض، وتُنفق ثواباً لروحه، كما أُعلن عن هذه الوصية بلافتةٍ كبيرة عُلقت على جدار بيت الراحل.
هذه ثلاث وقائع من فعال الخير، التقطتها من بين آلاف وملايين مواقف الخير، التي تصدر يومياً عن هذا الشعب الكريم، ويحتضنها بلدنا العزيز، نعرف القليل منها ويخفى علينا الكثير، ولستُ أدري لماذا هذا الصدود عن الخير وأهله، والتولّع الزائد بالسلبيات والشرور؟!
في ثقافتنا الإسلامية: «لا تستحي من إعطاء القليل، فإنّ الحرمان أقلّ منه»؛ كذلك: «لا تستصغرنّ حسنة أنْ تعملها»، وفي الموروث الإنساني والحضاري التغييري؛ فإنَّ قليل الخير كثير!