نيويورك تختنق بالضباب الدخاني

بانوراما 2023/07/10
...

 جيسي يونغ
 ترجمة: بهاء سلمان

على مدى أيام، أذهلت صور نيويورك وهي تختنق بالدخان الولايات المتحدة، حيث يكافح السكان للتعامل مع التحدي غير المألوف المتمثل في تلوث الهواء الشديد. كما دفع الدخان الناجم عن حرائق الغابات في كندا السلطات إلى إصدار تنبيهات حول جودة الهواء في الساحل الشرقي، واِرتدى الناس مرة أخرى أقنعة الوجه، التي تم التخلي عنها إلى حد كبير منذ انحسار جائحة كورونا.

وما عدا ولايات الساحل الغربي، مثل كاليفورنيا، التي تشهد حرائق البراري السنوية، تعد هذه المشاهد نادرة في الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن مكافحة الضباب الدخاني بعيدا عن نصف العالم ليس بالأمر الجديد. ويمكن أن يصبح تلوّث الهواء الشديد الناجم عن الدخان الضار والغازات والمواد الكيمياوية الصناعية التي تخنق العديد من المدن الكبرى في جميع أنحاء آسيا لجزء كبير من العام، يمكن أن يصبح القاعدة للعديد من المدن الأخرى في جميع أنحاء العالم، مع تفاقم أزمة المناخ.
في العام الماضي، كانت ست من أكثر عشر مدن تلوثاً في العالم من مدن الهند، وفقا لشبكة المراقبة "آي كيو اير". وتشير تقديرات الباحثين إلى أن الهواء السيئ يمكن أن يقلل من متوسط العمر المتوقع لمئات الملايين من الهنود بما يصل إلى تسع سنوات؛ ويعتقد أن تلوّث الهواء كان قد تسبب بوفاة قرابة مليوني شخص في البلاد سنة
2019.
وبشكل منتظم، يغطي الضباب الدخاني العاصمة نيودلهي، ويعزى ذلك إلى عدة عوامل، منها انبعاثات المركبات ومحطات الطاقة التي تعمل بالفحم والممارسة السنوية لحرق الحقول الزراعية لإعداد الأرض لمحصولها التالي، معنى هذا أن الناس يتعرّضون لمستويات عالية من الجسيمات الدقيقة، أو ما يقدر بنحو (PM2.5)، وهو مؤشر مستخدم على نطاق واسع لتلوّث الهواء الضار. ويعد الملوّث الصغير شديد الخطورة حين استنشاقه، فيمكن له أن ينتقل إلى عمق أنسجة الرئة ويدخل مجرى الدم، ويرتبط بمشكلات صحية، من ضمنها الربو وأمراض
القلب.

تجاوز الحدود المسموحة
تأتي الجسيمات الدقيقة من مصادر متنوعة مثل احتراق الوقود الأحفوري والعواصف الترابية وحرائق البراري. وبلغت مستويات PM2.5 في نيويورك ذروتها مؤخرا، بقياس 303 ميكروغرام لكل متر مكعب. ولأجل المقارنة، توصي إرشادات منظمة الصحة العالمية بمتوسط سنوي قدره 5 ميكروغرام لكل متر مكعب؛ فيما بلغ قياس لندن أكثر من 9 ميكروغرام لكل متر مكعب خلال الأسابيع الماضية، وبلغ قياس هونغ كونغ 21 ميكروغرام لكل متر مكعب، وكلاهما بأمان ضمن النطاق "الجيّد" لمؤشرات آي كيو
اير.
ولدى العديد من دول جنوب شرق آسيا دراية كبيرة أيضا باضطرابات الحياة اليومية التي يمكن أن يحدثها تلوّث الهواء، خاصة خلال الموسم السنوي لحرق القش، عندما يضرم المزارعون النار في بقايا القش المتبقية بعد حصاد الحبوب. خلال العام 2019، ساء الجو في ماليزيا لدرجة أن عشرات الطلاب أصيبوا بالمرض وتعرّضوا للقيء، دافعا نحو 400 مدرسة للاغلاق وبعد بضعة أشهر فقط، خيم الضباب الكثيف مرة أخرى على سماء ماليزيا، بسبب حرائق غابات واسعة النطاق في إندونيسيا المجاورة، كناتج عرضي لتطهير أراضي إنتاج الورق وزيت النخيل وصناعات
أخرى.
في الآونة الأخيرة، حصلت مدينة "شيانغ ماي" شمال تايلاند على لقب لا تحسد عليه كأكثر مدن العالم تلوثا لمدة أسبوع على الأقل على التوالي في نيسان الماضي، بسبب الدخان الناجم عن حرائق البراري وحرق المحاصيل في أماكن أخرى من المنطقة. وسعى الكثير للحصول على رعاية طبية لمشكلات الجهاز التنفسي كالربو وضيق التنفّس، حيث أشارت إحد مستشفيات المدينة إلى إن الأجنحة كانت ممتلئة للغاية لدرجة
اضطرت معها إلى إبعاد بعض المرضى.

حياة متعبة
لسنوات، كان سكان العاصمة الصينية يتنفّسون الهواء الملوّث يوميا؛ وبلغ الأمر ذروته سنة 2013، عندما وصل مؤشر جودة الهواء إلى 755، محطما ما كان يفترض أن يصل إلى 500 كحد أعلى للمقياس، بحسب السفارة الأميركية في بكين التي احتفظت برصد يومي لجودة الهواء. أشار هذا الارتفاع التاريخي إلى أن الهواء كان بالغ الخطورة، مجبرا السكان على اغلاق منازلهم والبقاء داخلها، وارتداء أقنعة الوجه المزوّدة بمرشحات، وتشغيل
أجهزة تنقية الهواء بشكل كبير.
اجتذب الحدث اهتمام وسائل الإعلام الصينية وبعد فترة وجيزة، أطلقت الصين حملة شاملة لمكافحة التلوّث، غالقة مناجم الفحم والمحطات العاملة بالفحم، وأنشأت محطات مراقبة الهواء على مستوى البلاد، وفارضة تنظيمات جديدة. لكن بعض المشكلات ما زالت معلّقة، فقد عادت الصين إلى استخدام الفحم في السنوات الأخيرة، وشيّدت بسرعة محطات طاقة جديدة، حتى مع تزايد عدد البلدان التي تتطلع نحو الطاقة المتجددة. بيد أن التحسّن في العاصمة لا يمكن اِنكاره، حيث شهدت سنة 2021 تسجيل بكين أفضل جودة هواء شهرية لها منذ بدء التسجيلات في عام 2013؛ كما تبيّن الصور الآن سماء المدينة بلون أزرق في الغالب. انها علامة مشجعة ودليل على أن السياسات والاستثمارات الصحيحة يمكن أن تساعد في اصلاح جودة الهواء. لكن العلماء والخبراء يحذرون من وجود مزيد من التحديات تلوح في الأفق، فحتى المدن ذات الهواء الجيد مثل نيويورك لا يسعها الهروب منه. أدى تغيّر المناخ الذي يسببه الإنسان إلى تفاقم الظروف الحارة والجافة التي تسمح بحرائق الغابات بالاشتعال والازدياد، كما أفاد العلماء مؤخرا أن ملايين الهكتارات التي احترقت جرّاء حرائق البراري غرب الولايات المتحدة وكندا، وهي منطقة بحجم ولاية جنوب كارولينا تقريبا، يمكن ارجاعها إلى التلوّث الكربوني الناتج من أعمال أكبر شركات الوقود الأحفوري والأسمنت في العالم.
صحيفة الاندبندنت البريطانية