الطين والحضارة.. اللحظة الأعظم في التاريخ

منصة 2023/07/11
...

   محمد حاذور 

يسير الزمن والنهر بكل هدوء وتخفف وبطء، دون أن يكترثا بمسيريهما ومستوى سرعتيهما وما يفعلان بالأشياء، سواء إحالتها تحت الغبار أو بسحب الخصوبة منها. إن النهر والزمن في غاية الارتباط والانضباط مع الحركة. وهذا ما ينبغي أن تتوافر عليه كل الدواب على الأرض وشؤونها.

إن النهر وصورة جريانه التي لن تكتمل إذا ما تعرض للردم أو البتر، تشبه إلى حد كبير صورة المعرفة البشرية بجميع علومها. أول خطوة لنهر المعرفة البشرية، بدأت من ثقافات الأقوام والجماعات ما قبل الحضارات الشرقية القديمة ثم الأخيرة كتتويج لما حدث قبلها وتقديم درس المدينة كنموذج يحتذى به للخطوة الكبيرة التي خاضتها البشرية في تلك السنين، سألت إحدى الطالبات عالمة الأنثروبولوجيا مارغريت ميد ذات مرة عما تعتبره أول علامة على الحضارة في ثقافة ما. فقالت ميد إن أول علامة على الحضارة في ثقافة قديمة هي إثبات وجود شخص شفي من كسر في عظم الفخذ. وأوضحت ميد أنه في مملكة الحيوان، إذا كسرت ساقك، تموت. لا يمكنك الهروب من الخطر، أو الذهاب إلى النهر لشرب الماء، أو الصيد لاطعامك. تصبح لحمًا طازجًا للحيوانات المفترسة. لا ينجو أي حيوان من ساقه المكسورة لفترة كافية لشفاء العظم. 

إن كسر عظم الفخذ الذي تم شفاؤه دليل على أن شخصًا ما قضى وقته في البقاء مع الشخص الذي سقط، وجبره، ووضع الشخص في مكان آمن واعتنى به حتى تعافى هذه اللحظة التي أطرتها مارغريت ميد بالأهمية والمركزية في نشأة الحضارة، لها ارتباط وثيق بالجماعات والقبائل، أي ما قبل اكتمال عناصر الحضارة. 

وهي بدورها، أي اللحظة، أسهمت أيما مساهمة في تشييد المدينة، لأن المرأة، أعظم مساهم ومحرض على نشأة المدينة وترك الترحل وتفضيل الاستكانة والاستقرار، ذلك أنها غير قادرة على الحمل والإنجاب دون مستقر. 

هنا، نشير إلى الحمل والإنجاب تلويحاً على الرفقة والعناية والحب. 

لكن اللحظة الأهم والأعظم في التاريخ على الإطلاق، هي لحظة الكتابة. 

لحظة التقاء الطين بالحروف المسمارية. والسؤال الذي ينبغي طرحه، كم تدين البشرية برمتها للطين، لأنها المادة العضوية التي قاومت آلاف السنين محتفظة بتاريخ حضارات وشعوب وتفاصيل حياتهم وكيف عاشوا وعملوا وانشؤوا وتزوجوا وغيرها من تفاصيل الحياة اليومية. 

إن لحظة التقاء الحرف بالطين هي تتويج لكل المحاولات السابقة التي انشغلت بعملية التدوين. فما زلنا لا نعرف الطرق والكيفيات التدوينية التي سبقت الكتابة على ألواح الطين بالحروف المسمارية. 

منذ تلك اللحظة، ابتدأت، مرحلة التدوين وإرساء قواعد الحضارة. وبدأت معها أرشفة وتأرخة ما يحدث، ومن هنا بدأت مرحلة عظمى وكبرى، مرحلة صناعة التاريخ، دون الإغفال عن مثالب هذه الصناعة. 

فما حدث قبل تلك المرحلة أصبح في خانة الأحداث الميتة المجهولة التي لم يتوصل البشر إلى الاحاطة ولو بنسبة بها. 

وليس من المبالغة، أن هذه اللحظة الفارقة، قد أسهمت بتطوير البنية التكوينية للدماغ البشري. 

تأتي المساهمة لكونها أنتجت ذاكرة أخرى، أو الذاكرة الأقوى من ذاكرته التي يغزوها النسيان بطبيعة التكوين الفزيولوجي للإنسان. 

وهنا، سجل الإنسان، أول انتصار على الطبيعة، حين استطاع الوصول إلى صناعة الخلود. 

وكم تخلص هذا المخلوق البشري المجبول على البربرية، من بربريته تلك بفضل الكتابة. بالكتابة، جاءت الحضارة، ببديل مناسب وملائم لتغذية وترويض متطلبات البربرية، وبدقة، للحد من عبثيتها (هذه الفكرة-استبدال البربرية بالكتابة - تحتاج لوقفة مفصّلة، نخوضها فيما بعد) وتدميريتها الدورية التي تنسف ما تقدم به البشر من خطوات وأشواط طويلة في صراعه بتشذيب وتهذيب همجيته. 

بالإضافة إلى ما تقدم، ثمة رأي بالغ الأهمية، في كون الكتابة، تلك القدرة المبدعة، أعظم لحظة في ذاكرة البشرية، وهو ما قاله، جون سيرل، فيلسوف اللغة الأميركي، في واحد من حواراته، والذي قمت بترجمته. يسأل المحاور: – ديفيد بولتون: إذن، بمعنى ما، الكتابة هي التقنية التمكينية للحضارة  –  جون سيرل: من الصواب القول إن اللغة المكتوبة تمكن الحضارة. 

لكنني سأذهب خطوة أخرى وأقول إنها لا تمكنها فقط بمعنى جعلها ممكنة، بل إنها تشكلها. 

إنها عنصر تأسيسي للحضارة، حيث أنه لا يمكنك الحصول على المؤسسات الاجتماعية المحددة للحضارة دون وجود لغة مكتوبة. 

لا يمكنك الحصول على جامعات ومدارس. ولكن ليس المؤسسات التربوية فحسب، ولكن حتى امتلاك المال، أو الملكية الخاصة، أو الحكومات، أو الانتخابات الوطنية، أو حتى الحفلات العامة، والزيجات. 

لا يمكنك حتى قضاء إجازة صيفية أو رفع دعوى قضائية بدون لغة مكتوبة. 

لذا، فإن اللغة المكتوبة هي المكان الذي تكتسب فيه اللغة، وليس فحسب قوة إبداعية جليلة، بل قوة دائمة، لأنه بمقدورك تأليف هذه الكتابات الرائعة التي تستمر وتتكرر وتدوم لعدة قرون".