متى يعود العراق بوابة آسيا نحو أوروبا؟

منصة 2023/07/12
...

  أ.د. سيّار الجميل *

سعدت جدا عندما علمت وأنا اقرأ {تقريراً} خاصاً عن مشروع ستراتيجي حضاري متطور ينطلق من العراق الذي سيكون معبراً حقيقياً بين قارتي آسيا وأوروبا.. واستعدت ذاكراتي عندما طالبت منذ اكثر من ثلاثين عاماً بإعادة بناء {الطريق السلطاني البري}، من خلال بناء شبكة سكك الحديد متطورة وسريعة تعيد للعراق مكانته الماركنتالية القوية بين الشرق والغرب، والتي افتقدها منذ تأسيس قناة السويس عام 1869..  فما  هي الجذور التاريخية؟ وما الذي  تضمنه التقرير؟  وهل سيتحول الحلم إلى حقيقة؟  وهل  سيتم المشروع خلال خمس سنوات  بـ 17 مليار دولار؟ وهل سيواجه تحديات داخلية وخارجية تمنع انجازه في ظل الظروف الاقليمية والدولية في الشرق الاوسط؟
الجذور  التاريخية:  من تلاشي الطريق
السلطاني إلى مشروع بي بي بي
كتب تيمور أزهري، "تقريراً" مهمّاً نشر مؤخرا قبل شهر تقريبا بتحرير مايك هاريسون، نقلته وكالات رويتر.. تحدث فيه عن مشروع سكة حديد متطوّر جدا يربط آسيا بأوروبا عبر العراق، وقد ترجم ملخصّاً عنه، والخبر في الأصل، صدر عن العراق، ومن يتوّغل في دراسة هذا "المشروع"، سيجده مشروعاً مستقبلياً جباراً، يعبّر عن حالة ضرورية لربط قارتين قديمتين اثنتين اقتصادياً، واعادة الحياة للطريق السلطاني التاريخي عبر العراق برّاً..  وكنت قد توقّعت حدوثه منذ تسعينيات القرن العشرين، بل وطالبت بأن يكونَ العراق بوابة آسيا نحو أوروبا براً، نظراً لستراتيجية موقعه ومركزيته في العالم، فضلاً عن استعادة دوره التاريخي الحديث، ففي عام 1600م، افتتحت في البصرة أول وكالة دولية لشركة الهند الشرقية بين الهند وبريطانيا، وتفاقم دور البصرة (فينيسيا الشرق) ابان القرن السابع عشر، وتقدمت التجارة العالمية الماركنتالية في العالم القديم في العراق، خصوصاً في الموصل ابان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وحتى العام 1869 عندما افتتحت قناة السويس، فتراجع دور العراق عالمياً حتى اليوم، بالرغم من  جهود السلطان عبد الحميد الثاني مع المانيا لبناء مشروع سكة حديد بي بي بي  (برلين-  بغداد- بصرة)، لكنه لم يكتمل بسبب  الحرب العالمية الاولى وحدوث متغيرات جسيمة اثر مؤتمر فرساي 1919 ولواحقه من معاهدات حتى 1923، اذ قبض  على أنفاس الشرق الاوسط، فضلا عن مجيء اتاتورك وسياساته التركية، التي لم تلتفت إلى الشرق بقدر توجهاتها نحو الغرب.  
في غضون تسعينيات القرن الماضي، قمت بنشر عدة دراسات وبحوث ومحاضرات ومقابلات صحفية وتلفزيونية، مع ما عالجته في كتابي "العولمة الجديدة: المجال الحيوي للشرق الاوسط: مفاهيم عصر قادم"(طبعة 1 عام 1997) توقعّت فيها أن العراق سوف يستعيد مكانته الدولية في القرن الحادي والعشرين، وسيكون بوابة آسيا نحو أوروبا من خلال شبكة سكك حديد متطورة.
ويأتي "المشروع" اليوم  ستراتيجياً، وكأنه يترجم  ذاك الأمل المنشود أو الحلم إلى حقيقة  ضمن متغيرات العالم الاقتصادية والعولمة الكابيتالية في هذا القرن الجديد، وكم طرحت فكرة بناء شبكة متطورة من سكك الحديد  في العراق تربط الشرق الأوسط  بعضه بعضاً،  كما طالبت بذلك في إحدى المقابلات التلفزيونية، والتي سخر من فكرتي احد الاعلاميين الجهلة وكان يحاورني، اذ كان القطار بالنسبة لهم  قد شاخ وغدا  طرازاً كلاسيكياً عتيقاً،  في حين أن العالم المتقدّم كله يعتمد  القطارات اقتصادياً وسياحياً حتى اليوم، وقد تطورت القطارات في  سرعتها  المذهلة  ودورها في  التواصل بين المجتمعات والأمم، ولكن السياسات العراقية والعربية معاً وقت ذاك كانت تعّول على السيارات والشاحنات علماً بأنّ القطارات هي الافضل من نواحِ مختلفة، فالاندثار قليل والأمن كبير والكلفة أقل وفرص الاندماج الاقتصادي أعظم.
اليوم، يشهد العالم ثورة كبرى في المواصلات وحركة التجارة والتواصل والسرعة باستخدام القطارات المتطورة والسريعة، فمن العقل تحقيق هذا الحلم الكبير الذي سيربط الاقليم بعضه بعضاً، وخصوصا دول الجوار، وسيسهل على اقتصاد العالم التحرر من هيمنة البحر أو كلفة الجو.. وسيتيح ذلك للعراق وطبيعته المنبسطة أعظم منطقة برية سهلة، باعتبارهِ بوابة آسيوية في ربط القارتين آسيا واوربا ربطاً محكماً خصوصاً، وللعلم، فإن ما يعلوه في الاناضول الشرقي  وقوقاسيا وترانس قوقاسيا مناطق وعرة وصعبة وقليلة المنافذ مع امتداد سلاسل جبلية عاصية جداً  مع منفذ واحد صعب جدا  أسماه العرب قديما بـ "باب الأبواب".  

مشروع القرن الحادي والعشرين
على هذا "النحو"، فإن ما جاء في "التقرير"، الذي ذكرناه آنفاً يعدّ أمراً مثيراً  ومباركاً إن صدقت النوايا  وسلمت الارادة  في التخطيط لهذا المشروع الرائع وتنفيذه،  بعيداً عن الأغراض السياسية الضيقة أو المصالح الإقليمية المتناقضة لهذه الدولة أو تلك، متمنياً  ألا تخلق  العوائق ضده  من سلطات متشيطنة  في دول  معينة، فالمشروع  سيمتد  لقرن كامل، فهو مشروع قرن  تستفيد منه عدة أجيال ولكلّ شعوب المنطقة، وسوف لا يكون حكراً على  حياة نظام سياسي، ولا تسويقاً لايديولوجية معينة.  
ذلك ان ما تضمنه " التقرير" عن هذا " المشروع " الصادر قبل أيام هو بقيمة 17 مليار دولار يربط العراق بمينائه الرئيس المخصص للسلع الأساسية على ساحله الجنوبي، ويرتبط بالسكك الحديد مع شبكة نسيجية من الطرق الداخلية المتطورة المؤدية إلى الحدود مع تركيا عبر الموصل  واقليم كردستان في خطوة  جبارة، تهدف إلى إحداث تحوّل نوعي في اقتصاد البلاد بعد عقود طوال من  آثام الحروب والتمزق وآفات التدخلات الاقليمية.. واتمنى ان تمتد ايضا شبكات سكك حديد، تربط دول المنطقة جمعاء بالعراق ومدنه المهمة.. وقد قرأت مباركة تركيا لهذا "المشروع" الحيوي.

التسمية الجديدة
لقد أسموه بـ "طريق التطور أو التنمية"، وهو يهدف إلى ربط الميناء العظيم في جنوب العراق الغني بالنفط بتركيا، وتحويل البلاد إلى مركز عبور عن طريق تقصير المسافات من خلال السرعة الفائقة وقت السفر بين آسيا وأوروبا في محاولة تاريخية أولى لاستعادة دور العراق التجاري في العالم ومنافسة قناة السويس، لأول مرة  بعد مرور اكثر من مئة وخمسين عاما على تأسيسها  في مصر.
وقال مدير عام الشركة العامة لموانئ العراق لرويترز بأن "طريق التطوير ليس مجرد طريق لنقل البضائع أو الركاب. هذا الطريق يفتح الباب أمام تنمية مناطق شاسعة من العراق." وتتصور الحكومة العراقية بأن هذا "المشروع" ممثلاً بقطارات عالية السرعة تنقل البضائع والركاب بسرعة تصل إلى 300 كيلومتر (186.41 ميل) في الساعة، وسيعمل ضمن شبكة متطورة من المواصلات والسكك الحديدية، التي تربط كل المدن ببعضها وتقيم صلات لمراكز الصناعة المحلية وتحيي أسواق المدن التجارية العريقة من جديد، فضلاً عن  دور المشروع في  تصدير المحروقات، بل سيكون مكوّن للطاقة يمكن أن يشمل أنابيب النفط والغاز.  
ان هذا "المشروع"، سينقل العراق من تقاليده البسيطة والساذجة، التي درج عليها العراقيون منذ 150عاما ليسترجع حيويته وقوته الاقتصادية وانشطته الاجتماعية وينقل المجتمع إلى حالات جديدة بإرساء تقاليد جديدة يمثلها روح العمل والسرعة والاندماج الحضري، وانتعاش السوق واتاحة فرص العمل للملايين من الناس، التي  سوف تخرج خروجًا كبيرًا على أساليبها الساذجة والمحلية والكسولة ونفي شبكة النقل القديمة القائمة في البلاد.

الرؤية التاريخيَّة والمستقبليَّة
تشغل خدمة القطارات العراقية حاليًا عددًا قليلاً من الخطوط القديمة، التي كان قد بناها الالمان والانكليز عند بدايات القرن العشرين، واستخدمها العراقيون بشغف كبير ثم ماتت عند نهايات القرن العشرين  بسبب السياسات العراقية، التي خضعت لإرادة شركات السيارات لعقود طوال، وبقيت قطارات بغداد نحو الموصل والبصرة التقليدية بعد موت خط كركوك في حالة متعبة وبطيئة وكسيحة، بما في ذلك شحن النفط البطيء وقطار ركاب واحد ليلاً يتدفق من بغداد إلى البصرة، ويستغرق من 10 إلى 12 ساعة، ليغطي 500 كيلومتر، أو ذاك قطار الموصل، الذي يستغرق الليل كله ليقطع 400 كم بارتجاجه  وشيخوخته ومحطاته البائسة.
إن ميناء الفاو العظيم، الذي تم تصميمه منذ أكثر من عقد من الزمان، في منتصف الطريق على الانتهاء.  من جانب آخر، سيعود قطار طوروس - كما كان يسمى على العهد الملكي العراقي - إلى نقل الركاب بين العراق وأوروبا، ولكن  في حالات متطورة، وليس  كما كان عليه الحال  في القرن العشرين قطارا اسودا ينفث البخار وهو يعوي! إن ثورة السكك الحديد منذ خمسين مضت شهدت تطورات مذهلة في العالم، وليس أولى من العراق أن يحظى بثورة في بناء السكك الحديدية المتطورة، كونه يمتلك تاريخا زاهرا لها عندما طبقت فيه عدة من الخطط الكبرى في مطلع القرن العشرين، لإنشاء خط سريع من بغداد إلى برلين.
إن العراق بحاجة ماسة إلى احياء "الطريق السلطاني" الذي تميز به ابان الأزمنة العثمانية، وهو طريق بري ونهري له مسالك عدة، جعل من العراق بمدنه التجارية  من أقوى البلدان في اقتصاداتها وانتاجياتها، كما وكان عاملاً أساسياً في  تطور التجارات  المحلية والاقليمية والدولية،  ناهيكم عن  تطور  طبقة اجتماعية  قوية في المجتمع  قوامها التجار الكبار  في المدن التجارية،  التي ازدهرت  بتلك التجارات .
وعليه، فان الحكومة العراقية مدعوة اليوم اكثر من أيّ يوم مضى إلى الاستفادة من مصادر الثروة العراقية إن أحسنت التفكير، وأن تعمل على تنشيط هذا الخط أو الطريق مرة أخرى، وربطه بدول أخرى"، فضلا عما سيقدمه  هذا الطريق المتطور  من خطط وفرص جديدة لنقل السياح والحجاج والطلبة إلى الأماكن المقدسة في العراق ومكة والمدينة في المملكة العربية السعودية، لأداء فريضة الحج.
واعتقد أن السعودية اليوم تعيش ثورة متقدمة في الحياة الجديدة، وهي تعمل ضمن خطط متطورة لولادة مدن مستقبلية وثورة مواصلات غير متخيلة، واحياء طبيعة ميتة لتكون مؤهلة للحياة في المستقبل.  

المشروع: ضرورة مستقبلية.. حذار من الفشل
لقد قرأت أنه قد تم الإعلان عن المشروع العراقي مؤخرا في مؤتمر يهدف إلى جذب الاهتمام العربي، بما في ذلك من دول الخليج العربي وسوريا والأردن.
وفي تصريح اطلقه مساعد حكومي كبير إن الاستثمار الإقليمي مطروح على الطاولة. ولكن الواقع يفترض أن نطرح عدة تساؤلات لإثارة المسألة، دون أن نبقى نتوهم الأشياء ونقتنع بمجرد تصريحات ذلك أن الوعود بالتنمية طويلة الأمد في العراق لا حرج عليها، لكن البنية التحتيّة لم تزل متداعيّة وأن أحوال البلاد الخدمية سيئة للغاية، وأن الحكومة مكتفية بالإصلاحات الجزئية، وهي تعمل بصعوبة في دفع إعادة بناء الطرق والجسور.
واذا كان المهم يقضي بإعادة التفكير لتنفيذ خطط ستراتيجية مستقبلية على طريق التنمية، والذي يعتمد على شيء جديد: فترة من الاستقرار النسبي منذ أواخر العام الماضي ويتأمل العراقيون في استمرارها.
ولكن الأهم عندي هو حالة الانسان الجديد وبناء وعيه واشباع حاجاته وتحقيق امنياته الصغرى وتأمين حياته الكريمة وأبعاده عن تقاليده البالية وإنقاذه من سذاجة الدجالين مع تخليصه من سايكولوجياته المعقدة وخلق رؤية وطنية متمدنة عنده بديل هذه الانتماءات الساذجة..  وكل هذا لا يأتي في يوم وليلة.. إنني أتمنى البدء في المشروع في بداية 2024 ليقتطع خمس سنوات من العمل كي ينتهي في العام 2029.. وتقول التقارير المنشورة في ME   Middle East Eye إن الأعمال المخططة في هذا المشروع ستشهد ربط 130 دولة عبر آسيا وأوروبا وأفريقيا من خلال البنية التحتية البرية والبحرية، ما يوفر وصولاً أكبر إلى الصين/ وسيكون العراق واسطة العقد الفريد الذي سيتحرك العالم من خلال موقعه الستراتيجي وعبقرية مكانه، التي يشعر العالم بقيمتها.
ويشمل هذا المشروع أيضًا بناء حوالي 15 محطة قطار على طول الطريق، بما في ذلك في المدن الرئيسة في البصرة وبغداد والموصل، وحتى الحدود التركية.  ويعتبر الخليج العربي، الذي تحده إيران والمملكة العربية السعودية إلى حد كبير، منطقة شحن رئيسة، خاصة لنقل الهيدروكربونات التي تستخرجها دول المنطقة.

وأخيرا
إن عودة العراق إلى العالم سيعيد إلى شعبه الثقة بالنفس وسوف يساعده هذا "المشروع" في الانفتاح على العالم وجعل البلاد كلها سياحية، وسيعزز مكانة العراق ليس في الشرق الأوسط حسب، بل في العالم اجمع كونه سيجمع كل من القارتين آسيا وأوروبا من جديد.. وحتى أن غاب العراق 150 عاما عمن دوره التاريخي في ماركنتاليات العالم، فان المستقبل مفتوحا أمامه وامام الأجيال القادمة، التي لا بدَّ أن تدرك كم جنى الآباء  بحق العراق،  وكم اضاعوا العراق بانقلاباتهم  وفوضويتهم  وأحزابهم التافهة وأيديولوجياتهم  العقيمة  وبياناتهم  الساذجة،  وسيدرك  العالم  أهمية مركزية العراق في العالم.
إنني متأكد أن الأجيال العراقية القادمة ستنظر إلى مستقبلها قبل ماضيها، وستعمل على بناء العراق وتخليص المجتمع من آثار الكوارث، التي أصابته منذ عقود طوال من الزمن..  وستذلّل كلّ المشكلات أمام ثورة الوعي الجديد من أجل تحقيق الطموحات، التي يطرحها العقلاء بعد أن حكم العراق جوقة من المجانين طوال ما مضى من السنين.  فهل سيتحقق الحلم الذي حكيته لكم وناديت به منذ أكثر من ثلاثين عاماً؟  أتمنى أن أكون حيّا لأرى ما كنت أحلم به وأن يعود العراق إلى قوّته الاقتصادية المؤثرة في العالم.  
* مؤرخ عراقي