غارة الاحتلال الاسرائيلي على جنين بشهادة أسرة فلسطينيَّة

بانوراما 2023/07/15
...

  ستيف هندريكس وسفيان طه
  ترجمة: بهاء سلمان

عاد الرجل العجوز حسين شبلي إلى منزله بعد أدائه صلاة الجمعة ماشيا عبر شوارع مدينة تكافح من أجل الخروج من مرحلة الدمار إلى مجرد الفقر البسيط. كانت هناك جرافة ترفع سيارة محطمة، وهناك رجال يقومون بإصلاح ثقوب الرصاص في خزان مياه على السطح؛ بينما تغسل سيارة إطفاء السخام من شارع مزدحم.
وصل حسين شبلي إلى منزله، وصعد السلالم إلى غرفة المعيشة، التي تحولت إلى كهف متفحم نتيجة لسقوط صاروخ يطلق من على الكتف.

“هل هذا مكان مناسب للعيش فيه؟” سأل هذا المواطن الفلسطيني وهو يقف بين الهياكل الخشبية السوداء لما بقي من الأرائك والكراسي، وأضاف: “لماذا حدث هذا لنا؟” يعاني حسين شبلي وجيرانه من أكبر عملية عسكرية شنّها الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلّة لم تشهدها المدينة منذ نحو 25 سنة، وهي عملية توغل استمرت يومين أطلقت العنان لمعارك بالأسلحة النارية وهجمات جوية على هذه الشوارع شديدة الانحدار والمكتظّة بالمنازل.

هجوم مفاجئ
وتقول إسرائيل إن الهجوم على مخيم جنين للاجئين، المعروف منذ فترة طويلة بأنه معقل للتشدد الفلسطيني المسلح، مثل ضرورة أمنية، لتقويض قوة قاعدة رهيبة آخذة في الاتساع. وبحسب مسؤولين إسرائليين، فإن ما لا يقل عن 50 هجوما داخل إسرائيل هذا العام كان مصدرها جنين. ووفقا لمصادر الجيش الإسرائيلي، فقد تم قتل 12 فلسطينيا خلال العملية، كان جميعهم من النشطاء المعروفين.
لكن بالنسبة للأسر التي حوصرت في المخيّم بسبب القتال، كانت الغارة عبارة عن 44 ساعة من الرعب. وتمكّن آلاف السكان من الفرار، وتجمع آخرون داخل غرف النوم والحمامات؛ وعانى القليل من الموجودين من مجموعة الأهوال التي شهدتها أسرة حسين شبلي البالغ من العمر 69 عاما.
كان الرجل العجوز مستيقظا لوقت متأخر يشاهد التلفزيون مساء يوم الأحد الثاني من تموز، وهو روتينه المعتاد بعد سنوات من العمل في الحراسة الليلية، ضمن دائرة مصنع اسرائيلي لتجهيز اللحوم. وهو من مواليد هذا المخيّم، (الذي يبدو أنه مخلفات حرب 1948) حيث يتكدّس ما لا يقل عن 14 ألف شخص، وربما أكثر بكثير، في منطقة تقل مساحتها عن نصف كيلومتر مربع، حيث ينتشر الفقر والبطالة، مع اعتياد اقتحام القوات الخاصة الاسرائلية للمنطقة.
في تلك الليلة، انتشرت شائعات عن عملية كبيرة، لكن لم يعرف أي أحد ماهية الأحداث القادمة. وعند الساعة الواحدة من ليل يوم الاثنين، رأى حسين تقريرا عبر قناة اخبارية إسرائيلية: جنود إسرائيليون دخلوا المخيّم. ثم سمع صوت طائرات بدون طيار، الكثير منها؛ ليظن أن القصف قريب. ثم حدث اِنفجار.

إرباك وترقّب
تعيش أسرة حسين شبلي في تسع شقق ضمن ثلاثة منازل متصلة يملكها حسين وشقيقاه، واعتادوا على غارات الاسرائليين. في غضون دقائق، هرع عشرات السكان إلى القبو. كان ما يقرب من 50 شخصا مزدحمين في الأماكن المظلمة المنخفضة التي يستخدمها ابن شقيق حسين، فادي، لتربية الببغاوات. ورفرفت عشرات الطيور مرتعشة، وأخذت تصرخ مع اندلاع معارك بالأسلحة النارية في الخارج. طوال الليل وكذلك نهار يوم الاثنين، كانت العائلة تسمع أزيز الرصاص وظل تنتظرالنهاية، حتى أضاءت الشموع بسبب انقطاع التيار الكهربائي بعد ساعات قليلة من القتال.
قال الرجل العجوز: “كان الأطفال مرعوبين”. لكن فادي، 34 عاما، كان يشعر بالقلق على زوجته الحامل وابنه البالغ من العمر ثلاث سنوات في الطابق السفلي المزدحم، فقد اضطروا للبقاء سوية داخل شقته الكائنة في الطابق الثاني. وبينما تجمّعت عائلته وسط غرفة المعيشة، كان فادي يراقب من خلال نافذة الحمّام الصغيرة.
يقع مجمّع حسين شبلي على شارع شديد الانحدار ويطل على منظر واسع للمخيم؛ وكان فادي يرى القوات الإسرائيلية تتحرّك من جهة الجزء الأسفل للشارع، ويقضون الوقت في تبادل الحديث مع الجيران لما يتجدد من أحداث. يتذكر فادي تلك الساعات قائلا: “الآن.. يذهب الجنود إلى بيت جعفر.. والآن.. يداهمون منزل ابن عمك... القصة لا تنتهي.”
في حدود الساعة الحادية عشرة من مساء يوم الاثنين الثالث من تموز، تلقى مكالمة من شخص ما: “فادي.. إنّهم قادمون إليك.” مرت ثوان قبل أن يسمع صوت جلبة في الطابق السفلي، وفجأة، تحطّمت أبواب شقته في آن واحد، ما أدى إلى تحطم الإطارات المعدنية للباب الرئيس، وأسرع 12 جنديا بالدخول، وهم يرتدون جميعا سترات واقية ومصابيح على الرأس. وقف فادي، الذي كان ابنه يبكي بين ذراعيه وزوجته تمسك بقوة بجانبه، وقف أمام الجنود، مناشدهم باللغة العبرية: “مهلا! مهلا! هنا طفل صغير!”.. متذكراً قوله.

أوقات عصيبة
“هويتك”!.. طلبها منه قائد المجموعة باللغة العربية، “أين هم الإرهابيون؟” أطفأ الجنود الشموع وكبّلوا فادي بأربطة بلاستيكية وأمروا الثلاثة بالدخول إلى غرفة المعيشة. ومن خلال الباب المفتوح، شاهدوا الجنود وهم يبحثون في خزائن الملابس. تأهب أحد الجنود أمام نافذة المطبخ الواسعة، وسرعان ما بدأ بإطلاق رشقات نارية كثيفة من سلاحه الرشاش الآلي، لتسقط أغلفة الرصاص بالمئات على أرضية البلاط. “رجاء!”.. صرخ فادي، “الولد مرعوب!.”
في الأسفل، كان أفراد الأسرة الآخرون تحت حالة من اليأس، مع توقف فادي عن الرد. يقول حسين شبلي: “اعتقدنا أنه مات، إذ كانت النساء يصرخن ويبكين.” استمر اطلاق النار. وطلبت زوجة فادي احضار لعبة للطفل، وقاد أحد الجنود فادي إلى غرفة نوم مليئة بالألعاب ودراجات الأطفال البلاستيكية. وعندما رأى الجندي لعبة بلاستيكية لبندقية آلية عند الباب، أطلق شتيمة على فادي، وضربه على كتفه بعقب بندقيته ودفعه إلى غرفة المعيشة.
طلبت العائلة الصغيرة الانضمام إلى بقية أسرتهم في الطابق السفلي، لكن قائد القوة رفض، وقال لفادي أنهم على وشك مغادرة المكان جميعا. ومع الاقتراب من منتصف الليل، وردت أصوات من جهة القوة العسكرية عبر مكبر صوت: “اخرجوا..! اخرجوا..! ستكونون بأمان”.
سارع الناس المحشورون في الطابق السفلي لجمع الوثائق والحفاضات وهرعوا إلى الفناء، حيث وجدوا سيارة إطفاء وفريقا من الهلال الأحمر وعائلة فادي. أحاط رجال الإطفاء والرعاية الطبية بالموجودين، وهم يتعانقون ويبكون، بينما قطع أحد المسعفين أصفاد فادي.
وجه أحد رجال الإطفاء نصيحة للعائلة: “اخرجوا سوية، يجب أن يبقى الرجال في مجموعة مع النساء والأطفال حتى لا يتم إطلاق النار عليهم.” شق الجميع طريقهم عبر الأزقة، وفوق الانقاض والأسلاك المتساقطة. كان أحد الشوارع الطويلة قد حفر مثل أخدود مزرعة، حيث فجّرت الجرافات الإسرائيلية عبوات ناسفة كانت موضوعة في الرصيف.

انفراج الأزمة
وبمجرد خروجها من المخيم، انتشرت الأسرة بين منازل الأقارب. كان حسين ملتصقا بالتلفزيون، في وقت متأخر من يوم الثلاثاء الرابع من تموز، حيث رأى تقارير عن سقوط صاروخ يطلق من الكتف بالقرب من مسجد عبد الله عزام في منطقته السكنية. “لقد لاحظت أنه لم يكن المسجد هو المتضرر، إنما كان منزلنا.
لقد شاهدت على التلفزيون النار تلتهم منزل ابني.”
كان الدخان لا يزال يتصاعد عندما عاد صباح الأربعاء الخامس من تموز، بعد ساعات قليلة من انسحاب القوات الإسرائيلية من شوارع مخيّم جنين؛ مع امتلاء شقة فادي بأغلفة الرصاص. قال حسين شبلي إنه لم يكن هناك سبب لاستهداف مجمعهم السكني، لسبب بسيط وهو عدم ارتباط أي فرد من عائلته بأي شكل مع الجماعات المسلحة، مع عدم وجود مطلوبين منهم لدى القوات الاسرائلية. “لدينا جميعا تصاريح للعمل داخل إسرائيل، وهم يعرفوننا حق المعرفة،” يقول حسين شبلي، مستذكرا سنوات عمله جنبا إلى جنب مع  فريق من الإسرائيليين ضمن مجموعة تطبيق الشريعة اليهودية بخصوص اللحوم، وكانت المجموعة بقيادة حاخام يمارس دور المراقبة على الظروف الصحية للحيوانات.
لم يرد الجيش الإسرائيلي على طلب للتعليق على سبب استهداف منزل حسين شبلي. وبحلول يوم الجمعة السابع من تموز، ومع تحليق طائرة استطلاع بدون طيار في سماء المنطقة، كانت الحياة تعود إلى المجمّع، حيث كانت النساء يطهين الطعام في شقة حسين الموجودة عند الطابق الأرضي. وعاد فادي للاعتناء بطيوره، التي مات نحو عشرين منها بسبب نقص الطعام أثناء عملية التوغل الاسرائيلي.
من جانبها، دعت الأمم المتحدة المانحين للمساعدة في إعادة بناء جنين. وتعهّدت الإمارات العربية المتحدة بتقديم 15 مليون دولار قبل عدة أيام، بيد أن حسين شبلي يشكك في الأمر: “نسمع عن الأموال من قنوات الأخبار، لكننا لا نراها.” كما إن اعتقاده بتغيّر الأوضاع ضعيف، فسوف تبقى جنين فقيرة، وكذلك القوات الاسرائيلية.. ستعود.
يقول الرجل العجوز: “سوف يعودون، فقد قالوا إنهم يريدون القضاء على المقاومة في جنين؛ لكنهم لن يستطيعوا فعل ذلك.”

صحيفة واشنطن بوست
 الاميركية