سحر الحذف

الصفحة الاخيرة 2023/07/16
...

محمد غازي الأخرس

ويقولون في المثل: "امشي وره المبجيك، ولا تمشي وره اليضحكك ويضحك الناس عليك"، ومعناه أن على الإنسان الاصغاء لمن ينصحه ولو كانت نصيحته قاسية لدرجة أن تكون مبكية، وهذا أفضل من أن يأخذ المرء اللهو مع من لا يدله على أخطائه.
سوف ينفعه الأول في المحصلة الأخيرة فتنقلب الدموع إلى ضحكات، بينما يفعل الثاني العكس، فيضحك صاحبه في البداية، ثم ينتهي بأن يضحك الناس عليه.
مثل رائع لطالما سمعته من أمي كاملاً، في حين كنت أسمعه من غيرها مقطوعاً، حيث يكتفون باختصاره في شطره الأول، فيكون : امشي وره المبجيك.
هل يختصر الشطر الأول معنى المثل بكله؟
هل يحذف الشطر الثاني تخفيفاً للسان أم أن الحذف ذو وظيفة بلاغية ما؟
سؤال تجيب عنه آلية الحذف التي عرفت بها العربية، حيث قال علماؤها إن الحذف في الكلام لا يكون عبثاً، بل لغرض وفائدة، كأن يأتي للتفخيم، أو لزيادة اللذة باستنباط المعنى المحذوف، أو طلباً للإيجاز، ويسمى حذف الإيجاز، أو لغير ذلك من الفوائد البلاغية.
يقول إمام البلاغيين عبد القاهر الجرجاني إنه "ما من اسم حذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها، إلا وحذفه أحسن من ذكره".
من أمثلة الحذف لغرض التخفيف بسبب كثرة جريانه في كلام العرب، حذف حرف النداء في قوله سبحانه: (يوسف أعرض عن هذا) وتقدير الكلام: يا يوسف، أو قولهم : أهلًا وسهلاً، والأصل: حللت أهلًا ونزلت سهلاً، أو قول العربي: يعطي ويمنع، والأصل: يعطي ما يشاء، ويَمنع ما يشاء.
وفي اللهجات العربية المختلفة، توارثنا هذه الآلية في كثير من الصيغ، في الكلام العادي أو في الأمثال والكنايات.
نقول أحياناً: جلب العضك، فنحذف عبارة (طردناه)، إما لتحريض السامع على تذكر العبارة المحذوفة أو للتخفيف كون العبارة لا تحتاج إلى ذكر من فرط ما تكررت على الألسنة.
بالتوجيه نفسه نقول: اشجابرك عله المر، حاذفين عبارة : غير الأمر منه. ولئن أتى هذا الحذف للتخفيف، فإن هناك نوعاً آخر يأتي لدواع بلاغية مثل قول أمهاتنا سابقاً تعبيراً عن انزعاجهن من الأبناء: غفوا، فيحذفن تكملة العبارة وهي: ولا خلفوا ذيج الليلة.
والمعنى هو أن الأم تندب حظها بسبب حصول الحمل في تلك الليلة، لأن نتاجها كان مخيباً.  والحذف هنا جاء لفحش في المعنى المضمر. كذلك كن يقلن في المعنى نفسه : أمداه، حاذفات عبارة فيها فحش.
هو سحر الحذف كما يرى الجرجاني، يقول: "فإنك ترى به (الحذف) ترك الذِّكر أفصحَ من الذِّكر، والصَّمْت عن الإفادة أزيدَ للإفادة، وتَجدك أنطْقَ ما تكون بيانًا إذا لم تُبِن".
الحال مع المثل الذي بدأنا به: امشي وره المبجيك، هو الحال مع غيره، فقد لمح أكثر مما صرح، وأغرى السامع بتخيل معانٍ شتى، واحد منها يمكن هو المحذوف هنا: ولا تمشي وره اليضحكك ويضحك الناس عليك.