بدور العامري
لا شك أن خرق حرية الإنسان بشكل عام وحريته الدينية على وجه الخصوص له تأثير مباشر في تفكيك بنية المجتمع وتهشيم النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي لأبنائه، ما يهدد السلم الأهلي عن طريق الشحن الطائفي والتطرف والتشدد المذهبي، وبالتالي يكون هذا المجتمع عرضة للحروب والاقتتال.
تفكيك المجتمعات
وقد أثارت ظاهرة التجاوز على حرية الأديان والمقدسات وكان آخرها حرق المصحف الشريف من قبل أحد المتطرفين في السويد، موجة غضب واستهجان من قبل المسلمين في العالم وأولهم المسلمون المقيمون في دول أوروبا، إذ وصفت إحدى المغتربات العراقيات في دولة السويد أثناء وقفة احتجاجية رافضة لهذا العمل الشنيع، بأنه تصرف مخل بجميع المواثيق الأخلاقية والإنسانية، موجهة اللوم للسلطات الحكومية في السويد بسبب إعطاء التصريح والموافقة على مثل هكذا ممارسات من شأنها التأثير في الأمن المجتمعي وتهديد استقراره، علماً أن مجتمعات هذه الدول هي عبارة عن خليط من الأديان والثقافات جاءت من دول وبلدان متعددة لغرض الاستقرار في دول أوروبا بحثاً عن الأمن وفرص العمل والعيش المستقر، وبحسب الأستاذ في علم الانثروبولوجيا الدكتور يحيى حسين فإن "التعدي على حرية الأديان من أبرز العوارض التي تقيد تطور المجتمعات وتنميتها، بعد أن عملت المؤسسات الاجتماعية والثقافية على تضمين برامجها مواد تدعو إلى احترام حقوق الإنسان الدينية وعدم المساس بها واحترام مقدساته ورموزه، ليخرج فرداً غير متزن ويقوم بحرق نسخة من القرآن الكريم ليستفز مشاعر ملايين المسلمين"، ويعتقد حسين أن هذا الفعل قد يكون مخططاً له بعناية لغاية تفكيك المجتمعات عن طريق انقسام الآراء بين مؤيد ومعارض، ومن يجد الأمر بالغ الأهمية وبين من يستصغر، وبالتالي استطاع هذا الأمر أن يحدث هزة عنيفة في أوساط المجتمعات العربية والإسلامية.
غايات
ويرجع أستاذ الدراسات الإسلامية الدكتور طالب الصرايفي أسباب هذه التجاوزات والاعتداءات المتكررة على القرآن الكريم أو شخص الرسول الأعظم (ص) إلى عدة نقاط منها، الفهم المغلوط لتعاليم الدين الإسلامي من قبل المجتمع الأوروبي، وكذلك الوهم الاجتماعي الذي يشير ويستمر به رغم وجود الدلائل التي تثبت له العكس، إضافة إلى الشعور بالخطر من انتشار الدين الإسلامي بين مجتمعات بعض الدول الأوروبية.
ونبه الصرايفي، على أبعاد تلك الانتهاكات بحق المقدسات الإسلامية والتي تمثلت بردود أفعال متشددة لجماعات من خارج وداخل أوروبا لتنفيذ أعمال إرهابية وترويع الناس انتقاماً لمثل هكذا مظاهر، وأشار الدكتور طالب إلى أسباب تركز جرائم انتهاك المقدسات الدينية الإسلامية في (السويد والدنمارك والنرويج) أكثر من غيرها في الآونة الأخيرة، لكون هذه الدول تتمتع بالقرب الجغرافي والتشابه الكبير في البناء الاجتماعي والثقافي للأفراد ما سهل انتقال الأفكار والمعلومات بالقدر نفسه والتأثر بالفعل ورد الفعل، وللشاب مهند الموسوي (39 عاماً) رأيه في موضوع حرق القرآن الكريم على يد أحد اللاجئين في السويد وهو من أصل عراقي مسيحي واصفاً إياه بالغرض الشخصي، حيث يبين أن المجرم حاول استمالة تعاطف المسؤولين في السويد لغرض منحه الجنسية والحصول على مكاسب أخرى عن طريق تصرفه هذا لاثبات أن حياته أصبحت بخطر ولا يمكنه العودة إلى بلده الأم نتيجة رفض ذلك المجتمع لما قام به.
قوانين ضامنة
إن حرية الدين والمعتقد مكفولة في جميع القوانين والدساتير الدولية العامة، إذ تجلى ذلك تاريخياً في عام 1948عندما اعترفت الأمم المتحدة بأهمية حرية الدين والمعتقد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث نصت المادة 18 منه على أن "لكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، واعتناق أي دين أو معتقد يختاره"، ولم يتوقف ذلك النص عند الأمم المتحدة فقد انتشر هذا المبدأ في كل دساتير العالم وتم تبنيه من قبل المنظمات والمؤسسات الحقوقية والإنسانية، ويرى الدكتور يحيى حسين أن من جمال الدين الإسلامي الذي سبق مواثيق الأمم المتحدة بما يقرب من الألفي سنة أنه أعطى الحرية للأشخاص باتباع الإسلام أو البقاء على دياناتهم السابقة، وهذه ميزة يجب التمسك بها وعدم التفريط بها لأنها تعبر عن خصوصية إنسانية، ولنا في العراق تجارب في هذا المجال، اذ ما زال إلى اليوم يتشارك المسيحيون والإيزيديون والصابئة العيش على أرض هذه البلاد مع إخوتهم المسلمين، على الرغم من حصول بعض الخروقات في فترات سابقة، نتيجة التطرف والتشدد الديني لبعض الجماعات الدخيلة على المجتمع العراقي إلا أن الأصل هو التعايش والألفة بين مختلف الأديان والطوائف والقوميات، وهو مصداق لقول الإمام علي (ع) "الناس صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، وكما في قول أهل الحكمة والتصوف والعرفان: إن عدد الطرق إلى الله بعدد أنفاس الإنسان، من ذلك نستنتج أن مبدأ احترام جميع الآراء والمعتقدات التي يتبناها البشر بغض النظر عن الدين والعرق واللون والثقافة هو ستراتيجية قامت عليها الدراسات الأنثروبولوجية في تطور ونمو المجتمعات، ويرى الدكتور طالب الصرايفي أن القرار الأممي رقم 2686 من أهم القوانين التي عالجت موضوع التجاوز على حرية الأديان بصورة دقيقة من حيث الأسباب والنتائج، حيث أقر بأن العنصرية وكراهية الأجانب والتمييز العنصري والتمييز بين الجنسين عوامل تؤدي إلى اندلاع النزاعات وتصعيدها وتكرارها، إذ دعا القرار إلى إدانة هذه الممارسات السلبية علناً وصراحة، عن طريق بناء شراكات بين الأطراف المجتمعية ومنها القيادات الدينية والاجتماعية والكيانات الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي والمؤثرون فيها للقيام بدورهم في التصدي للعنف وخطاب الكراهية واستبداله بممارسات دعم ثقافة التسامح والتعايش السلمي.