ما الذي خسره الشعر وما الذي ربحته القصيدة؟

منصة 2023/07/17
...

 أحمد الشطري

لكي أكون أميناً في حديثي لا بد أن أشير إلى أن هذا السؤال أو هذا التساؤل جاء بوحي من قراءتي لكتاب الدكتور حاتم الصكر (حلم الفراشة) والذي وضع سؤالاً يقول: ما الذي خسره الشعر بتحوله من طور الإنشاد إلى القراءة، أي من مخاطبة  ‹‹الأذن ›› المستمعة إلى مخاطبة ›› العين ›› المبصرة؟

وللإجابة على هذا التساؤل لا بد أن نضع مقدمات ؛ لكي تكون الإجابة أكثر تحديداً وإحاطة بالمشكلة، وما لا شك فيه أن التساؤل يختص بالشعر الذي يكتب بالغة الفصحى، وبموضوعة التلقي الجماهيري، وإلا فإن الشعر الذي يكتب باللهجة العامية لا نرى أنه يعاني من خسائر في هذا الجانب إن لم يكن قد أصبح الرابح الأكبر في ظل التقنيات الحديثة. 

وإذن فخسارة الشعر هنا محددة بطرف معين وليس بإطاره العام، ومن هنا فإن المشكلة لا تتعلق بالمُرْسَلِ إليه كما يبدو، بل تتعلق بطرفي الخطاب الآخرين، (الرسالة 

والمُرْسِل).

وعليه فلا بد من تحديد العوامل التي ساهمت في صنع وتنامي هذه الخسارة أو هذا الضعف بالتواصل بين الشعر بشكله الخاص و المتلقي.

لم تكن موجات التجديد في بنية القصيدة العربية عاملاً مؤثراً في عملية التلقي، كما لم تكن الحداثة التقنية ذات تأثير كبير في العلاقة بين الشاعر والمتلقي، بل بقي للشعر حضوره الجاذب، وظل الناس يتداولونه في مجالسهم ومحافلهم، 

وظل الشاعر نجماً لامعاً أين ماحل، حتى جاءت الحداثات الجديدة متمثلة بالخروج على نظام العروض بهيكليته الموروثة، فارتبكت العلاقة بين المُرْسِل والمُرْسَل 

إليه، وتهرأت الخيمة التي كانا يتقاسمان الجلوس تحتها، ثم جاءت قصيدة النثر لتقفز على النظام الصوتي المألوف 

ممزقة تلك الخيمة ومطوحة بأوتادها، تاركة الطرفين في العراء يصارعان العواصف والأمطار والشمس الحارقة؛ ليفترقا 

كلٌّ في جهة منشغلين بالبحث عما يأمن لهما الهدوء والطمأنينة التي ينشدان وفقاً لمزاج كل واحد منهما. ولم يقتصر هذا التنافر والخصام على طرفي المتلقي 

وقصيدة النثر بل إن الفجوة اتسعت لتشمل الشعر (الفصيح) بكل أشكاله، فأصبحت بضاعته تعاني من كساد مستشر بعدما كانت ذات رواج 

لا يفتر.

وإذا كانت هذه الخسائر التي واجهت سوق التلقي الجماهيري بهذا الحجم، فما الذي ربحته القصيدة إذن لتقدم هذه التضحية الجسيمة، وهل ثمة ربح 

فعلاً؟

نرى أن تلك الخسائر على مستوى التلقي الجماهيري برغم فداحتها؛ إلا أن ثمة عائدية ربحية قد تحققت بالفعل، وقد تمثلت في الثراء الفكري والرؤيوي الذي امتزجت به طينة القصيدة؛ لتصبح أكثر جمالاً وأكمل صورة مما كانت عليه، وهذا أمر لا يمكن تجاهله، وحديثنا هنا عن النماذج اللامعة في القصيدة، ولا ننكر أن هناك الكثير من الزبد الذي أسهم في تفشيه التصور الخاطئ والوهم المترسخ بسهولة قصيدة النثر باعتبار أن انفلتت من الضوابط الصارمة للعروض والقافية التي كانت أشبه بالسياج الحديدي الذي لا يتهيأ عبوره لكل 

أحد.

والسبب في ذلك  يكمن في الجهل بما تنطوي عليه قصيدة النثر من 

تقنيات بالغة الدقة تشبه تلك الخطوط الليزرية التي لا ترى إلا بالعين 

المجردة، والتي تستخدم كمنظمة إنذار لحماية الأشياء الثمينة من السرقة، وهذا ما يقع فيه هؤلاء الطارئين اللذين لا يمتلكون شفرة الدخول أو العبور للإمساك بتلك الجوهرة 

الثمينة.

وإذا كان تشبيهنا لقصيدة النثر 

بالجوهرة الثمينة لما تمتلكه من قيم جمالية وفنية ودلالية، فليس معنى ذلك أن القصيدة الموزونة بكلي نوعيها هي حجر

 ليس له قيمة، بل أننا نزعم أن القصيدة الموزونة قد اكتسبت من تقنيات الحداثة ما يجعلها جوهرة لا تقل قيمة عن قصيدة 

النثر إن لم تكن أكثر ثراء، باعتبارها قد احتفظت بقيمتها الصوتية مضافة إلى قيمها الدلالية، ولعل هذا ما يشير له جان كوهين بقوله:" إنهما]الصوت والدلالة[ عندما يوحِّدان إمكانياتهما يُعطيان هذه الأعمال التي يلتصق بها في أذهاننا اسم الشعر التصاقا مباشراً... فهذه الأشعار ... تستحق أن نعطيها اسم ‹‹ الشعر الصوتي- الدلالي›› أو الشعر 

الكامل".

إن خسارة التلقي الجماهيري لا تعني انعدام التلقي أو انقطاع العلاقة كلياً بين الشعر والمتلقي بل بقيت ثمة علاقة لا يمكن أن تتلاشي، رغم أنها غير كبيرة الأثر، ومن الممكن أن تشكل حجر تأسيس يصلح لإعادة بناء أو ترميم ما تهدم من تلك العلاقة التي انحسرت بفعل الظروف التي أشرنا إليها وغيرها مما لم نشر إليها. ولكنها بكل تأكيد تحتاج إلى صبر ورصد وتحليل وعمل متفان باستغلال الوسائل التقنية 

المتاحة.