منارات حسينيَّة

ريبورتاج 2023/07/22
...

 جواد علي كسار
قال الإمام أبو عبد الله الحسين: «وأحذركم الإصغاء إلى هتوف الشيطان بكم، فإنَّه لكم عدوٌ مبين، فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم: ﴿لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ﴾». ثمّ قال عليه السلام: «فتلقون للسيوف ضرباً، وللرماح ورداً، وللعمد حُطماً، وللسهام عرضاً، ثمّ لا يُقبل من نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً».
(1)
ثمّ أحاديث كثيرة تؤكد إحياء ذكرى سيد الشهداء، بأشكال العزاء المختلفة، من بكاءٍ وتباكٍ وإنشاد شعر وإقامة مجالس المصيبة، إلى الزيارة وتشكيل المواكب وما سوى ذلك. وتنحدر جميع هذه الممارسات في خطّ الإحياء الحسيني من نصوصٍ تشريعيَّة نهضت بها أدلة وافرة. بل ما بين أيدينا من النصوص المتصلة بالشأن الحسيني، بهدفه ومعانيه وسبل إحيائه يفوق ما وصلنا في المجالات الأُخر.
من تلك النصوص ما جاء عن الإمام الرضا علي بن موسى، قوله عليه السلام: «من تذكّر مصابنا وبكى لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون. ومن جلس مجلساً يُحي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب».
كذا تشتهر في هذا المجال قصة أبي هارون المكفوف الذي دخل على الإمام الصادق فأنشده شعراً بحقّ جده الحسين، فبكى الإمام عليه السلام، ثمّ قال لأبي هارون: أنشدني كما تنشدون، يعني بالرقة. يقول أبو هارون فأنشدته:
أمرر على جدث الحسين فقل لأعظمه الزكية
وبصدد الخلفية العقدية لشعر الرثاء الحسيني روي عن الإمام الصادق أنه قال: «ما قال فينا قائل بيتاً من الشعر حتى يؤيَد بروح القدس».

(2)
ما حظيت البشرية بمثل الخير الذي يتنزّل من الأفق الحسيني المبين الذي هو في حقيقته الأفق المحمدي. هو الطريق الذي كشفه لنا رسول الله صلى الله عليه وآله في كثير من بياناته النبوية العظيمة، من نظير قوله: «من أتاه زائراً (فهو) في ضمان الله. ومن أتاه (كان) بمنزلة من حجّ إلى بيت الله واعتمر، ولم يخلُ من الرحمة طرفة عين، إذا مات مات شهيداً، وإن بقي لم تزل الحفظة تدعو له ما بقي، ولم يزل في حفظ الله وأمنه حتى يفارق الدنيا».
ثمّ أحاديث وافرة تحثّ على زيارة سيد الشهداء في الأمن والرخاء، حتى ورد في حديث عن أبي بكير أنه قال للإمام الصادق: «أني أنزل الأرجان وقلبي ينازعني إلى قبر أبيك، فإذا خرجتُ فقلبي وجل شفق حتى أرجع، خوفاً من السلطان والسعاة وأصحاب المصالح. فقال الإمام الصادق: يا ابن بكير، أما تحبّ أن يراك الله فينا خائفاً.. أما تعلم أنه من خاف لخوفنا أظله الله في ظلّ عرشه وكان محدّثه الحسين عليه السلام تحت العرش، وآمنه الله من أفزاع يوم القيامة، يفزع الناس ولا يفزع».

(3)
هناك آثار أخرى لزيارة سيد الشهداء تمثلت نفسها موضوعياً وفي مختلف مراحل التاريخ، بأنماطٍ من الحركة والمواجهة والنهوض بوجه الطغاة والظلمة، حتى أضحت الزيارة في بعض العصور عنواناً يكشف عن ثورية الزائر وإصراره على التغيير.
لقد قام الشيخ الراحل محمد مهدي شمس الدين (1936 ـ 2001م) بتقصّي جوانب من هذه الأبعاد الثورية لزيارة الإمام السبط في كتابه الثرّ «ثورة الحسين في الوجدان الشعبي». في حين علق السيد الخميني على أمثال هذه الأحاديث بقوله: «إنَّ هذا الثواب المقدّر لكلّ مجالس العزاء، ومجالس التأبين الحسينية، ولجميع مجالس المراثي والمآتم الحسينية، إنما هو لبُعدها السياسي إضافة إلى أبعادها العباديَّة والمعنويَّة والدينيَّة».
لذلك وجدنا الأنظمة الظالمة تواجه هذه المجالس في الكثير من بلاد المسلمين، وتُخطط بجدّ لضرب مرتكزات مؤسّسة العزاء الحسيني وتهديم بنيتها، كي تعزل الأمة من التفاعل مع خطّ سيد الشهداء ونهضته. حصل ذلك في التاريخ بمختلف أدواره وفي الكثير من أشواطه ولم يزل يحصل. ففي العراق بلد الحسين مثلاً، كانت للسلطات هناك قصة طويلة في التعرّض لعزاء الحسين ومنع شعائره، بل أضحت مواجهة الشعائر الحسينية في طليعة أولويات هذه السلطة في بعض الأوقات قبل سقوط النظام البعثي.
حصل الشيء نفسه في إيران على عهد الشاه. يقول السيد الخميني ملفتاً النظر إلى موقف الشاه وأبيه من مراسم سيد الشهداء: «هذه المآتم هي التي حفظت شعبنا وصانته، ولم يكن منع رضا خان لها عبثاً، بحيث إنَّ جلاوزته من عناصر السافاك قاموا بتعطيلها ومنعوا إقامتها. لم يكن رضا خان يعارض الشعائر من دون سبب، بل هو مأمورٌ بذلك.. مأمورٌ من قبل الخبراء الذين يدرسون هذه الأمور، ويرصدونها. فأعداؤنا كانوا قد درسوا أوضاع الشعوب وأمعنوا النظر في أصول الشيعة، فوجدوا أنه ما دامت هذه المجالس موجودة، وما دامت المراثي تُقرأ على المظلوم.. وما دامت تقوم بفضح الظلم وكشف ممارساته، فلا يمكنهم بلوغ غاياتهم وتحقيق أهدافهم الخبيثة. لذلك فقد منعوا في عهد رضا خان، إقامة المواكب والمجالس الحسينية، وحظروا على الخطباء ارتقاء المنابر وممارسة الخطابة والتبليغ. أما في عهد ابنه محمد رضا خان فإنَّهم بادروا إلى تطبيق المنهج ذاته، ولكن بصيغة أخرى».

(4)
يتمثّل أحد أدباء الطف مصارع الكرام من أصحاب الحسين وآل النبي، فينشد قائلاً:
مصارع أولاد النبي بكربلاء
 يزلزل أطواد الحجا ويزيل
فأي امرئ يرنو قبورهم بها
وأحشاؤه بالدمع ليس تسيل
قبور عليها النور يزهو وعندها
 صعود لأملاك المساء نزول
قبور بها يُستدفع الضرّ والأذى
 ويعطي بهارب العلي وينيل
أتيتُ إليها زائراً مستشفياً
هوىً وولاءً طاهرُ ودخيل
ولما رأيت الحير حارت مدامعي
 وكأن لها من قبل ذاك همول