جواد علي كسار
(1)
قال الإمام سيّد الشهداء عليه السلام: «أيها الناس إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله، ناكثاً عهده، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أنْ يدخله مدخله. ألا وأنَّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله».
مع دورة كلّ عام، وفي مطلع السنة الهجرية تتجدّد ذكرى سيد الشهداء سبط رسول الله؛ تتجدّد الذكرى بحزنها وعظاتها ودروسها.. وتتجدّد بآلام الصبر على طريق السبط الشهيد، وبإرادة التغيير والإصلاح في أمة رسول الله صلى الله عليه وآله.
مع ذكرى الحسين الشهيد، يترسّخ وعينا أكثر بحقائق الصراع الطويل الذي تقوده أمتنا ضد الطغاة والظالمين، حيث لا تزال كربلاء نافذة معطاءة نطلّ من خلالها على قضايانا ومحننا وآلامنا. نتطلع من طف كربلاء إلى درس الحسين السبط ويومه في التعامل مع الظالمين، ومواجهته الرائدة للحركة السفيانية التي كانت قد طغت على سطح الحياة الإسلامية، بعد رحيل رسول الله إلى ربه.
ينبغي لوعينا الحاضر أنْ يكون موصولاً بطفوف كربلاء، وبنهضة الحسين السبط. وما المواجهة التي ينخرط بها المسلمون ضدّ الظلم وسلطات البغي والجور المتمدّدة على أجسامنا، إلا استمداد في أحد المعايير، مما علمنا إياه الحسين في نهضته، إذ أراد أبو الضيم أنْ يصحّح موقع الإمامة بمواصفاتها ودورها في حياة المسلمين. فليس الإمام الحقّ يزيد الفاسق وأضرابه من رموز البيت الأموي، بل علمنا الحسين الملهم في علمه من منبع الوحي المحمدي، والناطق في لسانه عن لسان جده الرسول، أنَّ الإمام الحقّ هو العامل بالكتاب المبين والحابس نفسه على ذات الله، وهو صلوات الله عليه، يقول: «فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحقّ، والحابس نفسه على ذات الله».
بهذا الوعي النافذ والبصيرة الحسينية الوضاءة، ينبغي أنْ نوطن الأنفس لمواجهة أئمة الضلال والعهر والفساد كيما تعود إمامة الأمة إلى خطها الذي ثار من أجله سيد الشهداء.
(2)
قال الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام في جواب الحرّ بن يزيد الرياحي حين جعجع به صوب كربلاء: أفبالموت تخوّفني! وهل يغدو بكم الخطب أنْ تقتلوني، وسأقول ما قال أخو الأوس لابن عمه، وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله فخوّفه ابن عمه، وقال: أين تذهب فإنك مقتول؟ فقال:
سأمضي وما الموت عارٌ على الفتى إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً
وواسى الرجال الصالحين بنفسه وفارق مثبوراً وخالف مجرماً
فإنْ عشت لم أندم وإنْ مت لم ألم كفى بك ذلاً أنْ تعيش وتُرغما
كانوا يريدون كتم أخباره على مستوى الإعلام، وكانوا ينكلون بمن يتطلع إلى أهل البيت، ويلتمس نهج الإمام الحسين على مستوى الممارسة اليوميَّة.
لقد ذاق بنو هاشم وهم جوهر من يمثل الخطّ، في أيام سلطة الأمويين ضروب العذاب، وتجرعوا مآسي الحرمان والقتل والتشريد. بيدَ أنَّ اسم كربلاء كان يتوهج وينتشر، وكان صدى الواقعة المتفجّعة يسبق الريح إلى آفاق بلدان المسلمين.
ما أروع هذا التشبيه؛ قارورة مسك علوية فواحة وكسروها عامدين، أرأيت إلى عبيرها الشذي كيف ينبسط على الأزمنة، وكيف يعبر المسافات، وكيف يبلغ أريجها المحزون أبعد مدىً، وكيف يملأ بأحزانه الصدور؟
حزنٌ مكتومٌ مكظومٌ تخزنه القلوب التوحيديَّة المغيظة الناقمة، ومن باح بأحزان فؤاده، وانطلق يتحرّك أُبيح دمه، وأريق كوشالة من ماء. فالإرهاب يحكم والخوف في كلّ مكان. بيدَ أنَّ المعنى الحسيني الذبيح كان ينبت في نفوس ويعتمل في أخرى، ويتحرّك ليجد منافذ للتعبير.
(3)
وبعد فما أروع حبّ الناس لابن فاطمة البتول الذي أعطى كلّ ما عنده، فآثره الله بخلود الذكر، واستهامت به النفوس. وإلا هل هدأ هذا الشوق العارم منذ أنْ أطلق ذلك الرجل الإعرابي وهو في مسجد رسول الله، أنشودته بهذه الأبيات بعد مكرمة نالها من سيد الشهداء؟
طربتُ وما هاج لي معبق
ولا لي مقام ولا معشق
ولكن طربتُ لآل الرسول
فلذّ لي الشعر والمنطق
هم الأكرمون هم الأنجبون
نجوم السماء بهم تشرق
سبقت الأنام إلى المكرمات
وأنت الجواد فلا تُلحق
أبوك الذي ساد بالمكرمات
فقصر عن سبقه السُبّق
به فتح الله باب الرشاد
وباب الفساد بكم يُغلقُ