حسن العاني
ما أمتعني شيء أيام دراستي الجامعية مثل درس البلاغة على يد أستاذنا الكبير الدكتور جلال الخياط رحمه الله، والبلاغة هي إحدى المفردات المنضوية تحت خيمة (اللغة العربية)، وهي في الوقت نفسه أجمل تلك المفردات، وأحلى ما أنجبت لغتنا العربية، وإذا كان الكتاب الكريم قد عني بها عناية كبيرة، فإن عيون الشعر والخطابة والنثر الفني اكتسبت حضورها الإبداعي من حضور البلاغة، ولكن مشكلتها تكمن في كونها غير قابلة للتأويل أو الاجتهاد أو التنوع، كما هو الحال مثلاً في مادة النحو ومدارسه، ولأنها غير قابلة للتطور من حيث وجود مجموعة قوانين وقواعد تحدد ماهو الجناس أو الطباق، وماهي الاستعارة أو الكناية، بخلاف الفنون الأخرى التي تقوم على اللغة وتعتمد عليها، كونها وسيلة التعبير
الرئيسة.
من بين فروع البلاغة الكثيرة، استوقفني (التضمين) كثيراً، وهو واحد من الأساليب البلاغية، ويُراد به اقتطاع مفردات أو جملة أو عبارة من القرآن الكريم، أو من نّصٍ آخر – قصيدة أو خطبة أو مقطوعة نثرية أو مَثَل- وتضمينها في أي تعبير آخر، كأن يكون مقطعاً أدبياً أو خطاباً ..الخ، أي أن هناك عملية اقتباس مشروعة، على شرط التنويه إلى هذا الاقتباس، وذلك بوضع المادة المقتبسة بين قوسين في
العادة.
من باب التبسيط، يمكن تقسيم التضمين إلى ثلاثة أنواع، أما تضمين المعنى فقط، أي من دون الكلمات أو النص الحرفي، وأما تضمين كلي، بمعنى اقتباس كلام أو قول بالكامل، وهناك تضمين جزئي يقصد به التصرف ببعض مفردات التضمين
الكلي.
دعونا نلاحظ قول الشاعر (لقد أنزلتُ حاجاتي – بوادٍ غير ذي زرع) فقد جاء عجز البيت ( بوادٍ غير ذي زرع) تضميناً قرآنياً للآية 37 من السورة 14 (ربنا إني أسكنتُ من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع).
ونسمع قول الشاعر (أضاعوني وأي فتى أضاعوا – ليوم كريهة وسداد ثغر) وكيف ضمّنه شاعر آخر (على أني سأنشد عند بيعي- أضاعوني وأي فتى أضاعوا)، وغير هذا بالطبع أكثر من كثير، وكنتُ أتمنى الاستشهاد بعدد آخر من الأمثلة لولا فسحة النشر الضيقة والمحدودة، لذلك سأكتفي بنصين عثرتُ عليهما في زحمة أوراقي، يعطيان فكرة أوضح من عين الشمس عن مفهوم التضمين، الأول (اجعل لآخرتك ما ينفعكَ يوم لا ينفع مال ولا بنون) والثاني (يوم نقول لجيوب المسؤولين هل امتلأتِ.. فتقول : هل من
مزيد!).