جواد علي كسار
(1)
قال الإمام أبو عبد الله في جواب عمر الأطرف عندما اقترح عليه الصلح مع الطاغية يزيد: «حدّثني أبي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بقتله وقتلي، وأنَّ تربته تكون بالقرب من تربتي، أتظن أنك علمت ما لم أعلمه؟!».
ثمّ قال عليه السلام: «والله لا أعطي الدنيا من نفسي أبداً، ولتلقينّ فاطمة أباها شاكية ما لقيت ذريتها من أمته، ولا يدخل الجنة أحدٌ آذاها في ذريتها».
جرى البعض على أنْ يتعاملَ مع عاشوراء مناسبة للحزن، ومناسبة للبكاء فقط. لا شكّ أنَّ البكاء والتفجّع على الحسين وآل الحسين وأصحابه “ع” هو من دين الله بالصميم، وهو سبيل إلى رضوان الله، وإلى نيل الحظوة عنده سبحانه. وربما يكفينا في هذا المقام أنْ نعودَ إلى الشيخ جعفر التستري في ما ذكره وجمعه مما له صلة بالبكاء على السبط الشهيد في كتابه الشهير: «الخصائص الحسينية»، لا سيّما أنَّ هذا الرجل عُرفَ بالعناية بالمعاني الحسينيَّة والتذكير بها في أكثر من كتابٍ من كتبه.
وقد ذكر من المعاني الدقيقة في خواص البكاء على سيد الشهداء، أنه صلة لجده الرسول، ولأمه الزهراء البتول، وأداءٌ لبعض حقّ النبي وأهل بيته على أمته، إذ جاء في الأثر “أنَّ الباكي قد أدّى حقنا”.
والبكاء على السبط الشهيد هو ضربٌ من ضروب النصرة، وفيه التأسي بالأنبياء والملائكة وجميع عباد الله المخلصين. وفي البكاء عليه - صلوات الله عليه - سلوى عن البكاء في كلّ مصيبة واقعة، حيث قال الإمام الرضا علي بن موسى: “يا ابن شبيب إنْ كنت باكياً لشيء فابكِ الحسين بن علي بن أبي طالب”.
هذه وغيرها من المعاني العلوية الرفيعة هي مما اختصّ بها حبيب الله، وحبيب جدّه الرسول. لقد وهب الحسين وجوده كله لله، فوهبه الله الخلود وجعله عبرة لعيون المؤمنين، ولوعة لقلوب حرّى، ونفوس لهفى.
مع ذلك كله ليست الذكرى الحسينيَّة هي مناسبة للحزن وحده، وليست هي أيضاً مناسبة للثقافة المجردة الجافة، إذ نجلس لسماع التاريخ؛ سماع قصته والاطلاع على تفاصيلها من أجل زيادة الثقافة وحسب.
نبكي الحسين قتيل العبرات جيلاً بعد آخر، ونصغي إلى قصته، ولكنْ لنحيا ونعيش من خلال النهج الحسيني المستضيء ببصيرة نورية ملهمة من منبع الوحي، حيث يقول عليه السلام في جملة بيانات حركته الإصلاحية: «وإنَّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً.. وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله. أريد أنْ آمرَ بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسيرَ بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ، فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين”.
(2)
لطالما تفجرّت انفعالاً بوقائع كربلاء كوامن الغضب الثوري في نفوس رجال أرهقهم الإحساس المرهف بالظلم والهضم، وعنّاهم تبصّرهم بالواقع المرّ، فانطلقوا من تربة الطف يصنعون الملاحم، وعلى ألسنتهم أناشيد الثأر الإلهي، وفي قلوبهم تهبّ رياح المعنى الحسيني الجليل.
وهذا هو الميدان الحسيني، ميدان مفتوح على تجربة من يريد أنْ يجرّبَ، ليجد أي هبات ستُفاض عليه، وأيّ بلايا ستُدفع عنه. وأما ما ادّخره جل جلاله لمن يتشرف بخدمة قضية الإمام الشهيد، فهو غير قابلٍ للإدراك، فضلاً عن الوصف، إذ تدلنا عليه أيضاً نصوص المعصومين وسيرة الأولياء الصالحين.
(3)
لعب المأتم الحسيني بل ومجمل المراسم الحسينيَّة دوراً حاسماً في حركة الاعتراض والمواجهة في بلدان متعدّدة كالعراق وإيران وغيرهما. لقد تعدّدت الدراسات حول هذا الجانب، وربما كانت أهم مصادر استجلاء البُعد النهضوي والسياسي للمأتم الحسيني والبكاء على سيد الشهداء ما جاء على لسان السيد الخميني، وهو يقول في أحدها: «تؤكد الروايات الواصلة إلينا على أنَّ لقطرة من الدمع على مظلوم كربلاء أهمية كبيرة، حتى أنَّ بعضها يؤكد على التباكي ويعطي لذلك أهمية». ثمّ يضيف موضحاً: «ليس هذا التأكيد لأنَّ سيد المظلومين بحاجة إلى هذا البكاء، ولا لأنكم تُثابون ويُثاب المسلمون على ذلك وحسب، وإنْ كان هذا الثواب موجوداً.. وإنما هذا الثواب المقدّر لكلّ مجالس العزاء؛ لكلّ مجالس التأبين الحسينية هو لبُعدها السياسي إضافة إلى أبعادها العبادية والمعنوية».
من البديهي أنْ تصوّر البُعد السياسي للبكاء ولمجمل مراسم الإحياء الحسيني، لا يمكن أنْ يأتي على صورة متكاملة، إلا بمعرفة الأوضاع التاريخية لتلك العصور، وتلمّس حالة الخوف والإرهاب الشديدين والبطش المطلق بكلّ ما كان يمتّ إلى الشيعة والتشيّع بصلة.
فعن الموقف الذي كان يُحيط إنشاء الشعر مثلاً - لكون الشعر إحدى أدوات الإحياء - يكتب باحث معاصر: «كان اكتشاف موقف موال لأئمة أهل البيت من خلال شعر شاعر أو تأليف كاتب، خليقاً بأنْ يؤدّي بصاحبه إلى الموت على أيدي رجال السلطة، أو إلى التشريد والمطاردة والسجن والمصادرة. كلّ ذلك بسبب أنَّ الموقف الشعري لم يكن يعني في الماضي موقفاً ذهنياً وعاطفياً فقط، وإنما كان يعني موقفاً سياسياً أيضاً».
(4)
رثت أم لقمان بنت عقيل بن أبي طالب سيّد الشهداء، بقولها:
ماذا تقولون إن قال النبي لكم
ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي
منهم أسارى ومنهم ضُرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكم
أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي