انتشار المخدرات في العراق أسرع من السيطرة عليها

منصة 2023/07/26
...

  أ.د. قاسم حسين صالح

توطئة
عنوان هذا المقال هو تصريح حديث لضابط في مكافحة المخدرات بوزارة الداخلية، يعكس تشخيصا لحقيقة واقعة بعد أن أصبحت تجارة المخدرات تأتي بالمرتبة الثالثة بعد تجارة النفط والسلاح باعتراف نائب برلماني من البصرة، وبعد أن صارت مخاطر المخدرات في العراق توازي تهديدات الإرهاب، وفقا لمديرية مكافحة المخدرات.. وبعد أن استطاع المهربون تطوير طرائق تهريبهم للمخدرات باستخدام طائرات شراعية تسمى (درون) تحمل بين (20 إلى 30) كيلوغراما من المخدرات، تم اسقاط واحدة منها في البصرة تحمل مليون حبة (كبتاغون).
ويأتي هذا المقال لتشخيص أهم أسباب شيوع المخدرات، واقتراح استراتيجية علمية تسهم في الحد من انتشار المخدرات في العراق.

الأسباب
منذ (18 كانون الثاني 2012) يوم عقدت في أربيل ورشة عمل لمناقشة مسودة قانون المخدرات بمشاركة مسؤولين في الحكومتين الاتحادية والاقليم وقضاة و و..  ولغاية (تموز 2023) والمؤتمرات والندوات تعقد وتخرج بتوصيات واقتراحات دون تنفيذ، حتى وصل الأمر إلى أن يكون (السباق للسيطرة على المخدرات أصعب بكثير من أي ملف جنائي آخر) باعتراف ضابط بمديرية مكافحة المخدرات.
  لم تكن هناك متابعة ولا اهتمام بمعالجات عملية اقترحتها منظمات ومؤسسات علمية.
بينها، أن كاتب هذا المقال.. حذر من مخاطرها عبر الفضائيات وعقد أكثر من عشر ندوات في بغداد وعدد من مراكز المحافظات، آخرها ندوة في مركز الصيد الثقافي في نادي الصيد العراقي (15 تموز 2023)، اكتشفنا فيها ان معظم المثقفين العراقيين والإعلاميين يعرفون تلك الأسباب، وإن إعادة ذكرها يعد فائضا معنى أو اجترارا كنّا بدأناه من عشر سنين!

  المخدرات.. أخطر من الإرهاب
حظيت ظاهرة تعاطي المخدرات باهتمام كبير من قبل علماء النفس والاجتماع والقانون وصنّاع السياسة، لما تحدثه من تحلل للقيم وتدمير للأخلاق، ولأن انتشارها بين سكان شعب ما يؤدي ليس فقط إلى الإضرار بالصحة الجسدية والنفسية للمتعاطين لها، بل إنها تؤخر أو تعرقل منجزات الدولة وخططها التنموية وتضعف أمنها الداخلي والخارجي أيضا حين توظّف المافيا الدولية للمخدرات في قضايا سياسية تكون الدولة منشغلة عنها بقضايا تعدها أخطر مثل الإرهاب.
والذي لم تعره حكومات سابقة الاهتمام الذي يستحقه، أن الأسباب التي تدفع إلى تعاطي المخدرات توافرت في العراق بشكل مثالي! فالدراسات تشير إلى أن الفرد يلجأ لتعاطي المخدرات في الحالات الآتية:
-  موت أحد أفراد الأسرة أو شخص عزيز عليه.. ولا يوجد مجتمع بالعالم المعاصر فقد أهله آباءهم وأحبتهم في انفجارات إرهابية واحتراب طائفي كالذي حصل في العراق، فضلا عن حالات التهجير والهجرة خارج الوطن.
 -  تضاعف حالات الطلاق والتفكك الأسري.. وما يقرب من ثلاثة ملايين يتيم بين أطفال ومراهقين وشباب فقدوا آباءهم في الحروب، وعدد مماثل من الأرامل.
-  عدم الرضا عن الحياة والقلق من المستقبل، وكثرة البطالة التي زادت نسبتها بين الشباب بشكل خاص.
-  تطرف ديني وضغوط نفسية، يقابلها انفتاح غير منضبط على الإعلام الغربي يدفع بشباب ومراهقين إلى تعاطي مخدرات صار الحصول عليها سهلا.
 نضيف إلى ذلك ما أكدته دراسات أجنبية وعربية من أن انتشار المخدرات يرتبط بدرجة الانفتاح على الثقافة الغربية والعراق يعد البلد رقم (1) في المنطقة إذ انفتح على هذه الثقافة عبر قنوات فضائية بما فيها إباحية واختلاط دام تسع سنوات بأفراد قوات الاحتلال.
ومن المفارقات أن الدراسات أشارت أيضا إلى أن الرواج النفطي يؤدي إلى زيادة تعاطي المخدرات في البلد المنتج للنفط. بمعنى إن الثروة النفطية تؤدي إلى الرفاهية وهذه تؤدي إلى ثقافة استهلاكية.

نظرية عراقية
هنالك أكثر من نظرية حاولت تفسير الدافع الذي يضطر الإنسان لتعاطي المخدرات بينها نظرية (انعدام المعايير- الانوميا) لعالم الاجتماع ميرتون.. ويعني بها التعبير عن الاحساس بانعدام المعايير التي اذا ما سادت في المجتمع فأنها تحرم مجموعات اجتماعية من تحقيق مصالحها.
واشارته الذكية إلى أن المجتمعات التي تضع قيمة كبيرة على الأمور المادية ومسائل الترف أو لا تتمتع بها الا القلة، فأنها تبرز فيها حالة الانوميا أو فقدان العدالة الاجتماعية، فتظهر جماعات تتجاوز قيم المجتمع ونظامه، وتخرق محرماته ومنها تعاطي المخدرات والاتجار بها.
وترى نظرية (الانسحاب الاجتماعي) أن متعاطي المخدرات هو في حقيقته شخص حرم أو عجز عن تحقيق أهدافه بوسائل مشروعه فاضطر إلى الانسحاب عن المجتمع فتضطره عزلته إلى تعاطي المخدرات لتخلق له عالما بديلا ينسيه عالمه الذي هو فيه نابذ أو منبوذ.
اما نظريتنا العراقية فقد اسميناها (نظرية التيئيس الانتحاري)، وترى أن النظام السياسي حين يكون ولاّد أزمات فان الإنسان يمر بعملية نفسية دائرية بين: أزمة.. انفراج.. أزمة..، تفضي به إلى تيئيسه من أن (النظام) عاجز عن تأمين حاجاته. وحين يصل حالة الاقتناع بأن السلطة اصبحت مصدر شقاء له، وأن الواقع لا يقدم حلّا لمشاكله، فان من استنفد طاقته في تحمل الضغوط ووصل حالة الشعور بانعدام المعنى من الحياة.. يلجأ إلى تعاطي المخدرات لإنهاء حياته بعملية انتحار تدريجي لا شعورية.

ستراتيجية علمية
تتضمن هذه الاستراتيجية الخطوات الآتية:
 - إن معالجة اية ظاهرة اجتماعية سلبية تبدأ أولا بتشخيص أسبابها عبر دراسات ميدانية، وعليه ينبغي تكليف أقسام علم النفس وعلم الاجتماع في الجامعات العراقية كافة بإجراء دراسات ميدانية لتشخيص عوامل انتشارها (سياسية، اجتماعية، نفسية اقتصادية...)، ومعرفة العلاقة بين انتشار تعاطيها وانتشار انحرافات أخرى، وما أحدثته من تأثير في القيم والاخلاق، واقتراح المعالجات.
-  يتم ذلك بإصدار توجيهات من مكتب دولة رئيس الوزراء إلى الجهات المعنية، واعتبار هذا المشروع (قضية وطنية ومسؤولية اخلاقية ودينية).
-   تبدأ الاستراتيجية خطوتها الأولى بتفعيل قانون مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية (رقم 50 لسنة 2017)، وقيام الجهات المعنية بتطبيقه بحزم مسبوقا بتوعية واسعة بنوعيها الإعلامية والجوالة.
-  عقد مؤتمر وطني بعنوان (المخدرات في العراق- الاسباب والمعالجات) تناقش فيه الدراسات الميدانية التي أجرتها اقسام علم النفس والاجتماع في الجامعات العراقية، وتوحيد الأسباب والحلول المقترحة.
-   ترفع نتائج المؤتمر الوطني إلى هيئة تضم مديرية مكافحة المخدرات بوزارة الداخلية وممثلين عن مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية، (البرلمان، الحكومة، القضاء) ووزارات الصحة والتربية والتعليم العالي والثقافة والجمعية النفسية العراقية وجمعية الأطباء النفسيين العراقية ومؤسسة شبكة الإعلام العراقي.. تقوم في ضوئها بإعداد استراتيجية تنفذ على مراحل زمنية يجري لها تقويم يحدد الايجابيات والمعوقات.
-  تكليف الجمعية النفسية العراقية بوصفها صاحبة المبادرة، بمتابعة التنفيذ وتشخيص ما تم تحقيقه واقتراح الحلول لمعالجة المعوقات بما يضمن تحقيق الاستراتيجية
بسلاسة.
اننا سنعتبر هذا وثيقة تم نشرها في الجريدة الرسمية (الصباح)، نأمل من الجهات المعنية العمل على تحقيقها.. فالعلم مع الإرادة السياسية يساعدان جهود مديرية مكافحة المخدرات وتختصر الزمن لصالح ملايين الشباب الذين يتوقف عليهم حاضر ومستقبل أغنى بلد في المنطقة.. يمتلك كل المقومات لأن يعيش اهله برفاهية وكرامة.