جواد علي كسار
(1)
تحدّثت السيدة زينب بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأخت سيد الشهداء في مجلس يزيد بالشام، فكان مما قالت: «فكد كيدك واسع سعيك... وناصب جهدك.. فوا الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يدحض عنك عارها. وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين، والحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة».
حلت صبيحة يوم العاشر من المحرم. توجّه سيد الشهداء إلى أصحابه فحدّثهم بقوله: «إنَّ الله تعالى أذن في قتلكم وقتلي في هذا اليوم، فعليكم بالصبر والقتال.. صبراً يا بني الكرام فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعم الدائمة، فأيكم يكره أنْ ينتقل من سجنٍ إلى قصر.. وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن
وعذاب».
ثمّ أردف عليه السلام: «إنَّ أبي حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله: أنَّ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم، ما كذبتُ ولا كُذّبت».
(2)
وقف الحسين السبط يوم عاشوراء وهو يواجه الحقيقة الصارمة، لقد غاب أبوه المرتضى من تحت نظره، وبقي عظيماً كبيراً ماثلاً في بصيرته، لقد أخذ عنه ما أخذ عن جده الرسول، إلا أنَّ الأخذ هنا كان أطول في مداه، وكان مركوزاً بمعاناة ما زادته فهماً حتى زينته شعوراً بأنَّ رسالة جده العظيم، هي بالحاجة القصوى إلى أندادٍ من طينة أبيه، كي تعمر الأمة ويستقطبها الوعي الجادّ إلى تحقيق ذاتها الإنسانيَّة الصامدة في صدر الحياة.
وقف السبط الشهيد أمام جيش ابن سعد يوم عاشوراء، فأخذ يخطب بالجمع ويدعوهم إلى الله، ويتمّ الحجة عليهم، قال: أيها الناس، إنَّ الله تعالى خلق الدنيا وجعلها دار فناء وزوال متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال.
فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته، فلا تغرنكم هذه الدنيا، فإنها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيّب طمع من
طمع فيها.
(3)
بعد صلاة الظهر، وقبل قليلٍ من لقاء الله، يخاطب الحسين “ع” أصحابه البررة: «يا كرام، هذه الجنة قد فتحت أبوابها واتصلت أنهارها وأينعت ثمارها. وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يتوقعون قدومكم، ويتباشرون بكم، فحاموا عن دين الله ودين نبيه، وذبوا عن حرم الرسول».
كأني بأبي الضيم يسر إلى ذاته القدسيَّة: اللهم اشدد عزمي حتى أقدّم للأمة، التي هي أمة رسولك وحبيبك محمد صلى الله عليه وآله، ما يصلح أمرها، فتوسع من خطواتها فوق دروب الحياة. اللهم اجعلني أشدّد حقوَيها لا بالحرف وتمتمة الشفتين، بل بالقدوة المجسّدة فداءً على الأرض وفي سوح الجهاد.
إنَّ عنفوان الحقّ في الحياة هو الذي يقود إلى المجد، والتسكع والاستكانة لا يصلحان لأكثر من ساعة، وإذ تمرّ بلا جدوى فإنَّ الذلّ وحده لا يُصبح الخَلَف.
يقول الإمام أبو عبد الله: «ألا إنَّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلة، وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية ونفوس أبية من أنْ نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا أني قد أعذرت وأنذرت، ألا أني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر».
(4)
ما أروع من قال: الموت موتان، موت يأتي إليك وموت تذهب إليه.
وفي كربلاء حيث عانق مئة رجل أسنّة الرماح وحدّ السيوف، ودفعوا أرواحهم ضريبة التمسّك بالحقّ والعدل والحرية، من أجل الأمة التي تحكّم فيها الجور المستند إلى الاستغلال، كان الموت موت البطولة والأبطال هناك هم الذين فتّشوا عنه، وحين بُشروا به تضاحكوا إليه.
بسقوط هذه الثلة الملتفة حول سيّد الشهداء كانت راية العدالة تخفق على قبورهم، ومثل هذه الراية لا تُسقى إلا بدماء الشهداء.
وهنا كانت كربلاء منعطفاً وكانت بداية. فلم يزال الدم الذي تدفق بغزارة من نحور أصحاب الحسين، ينبع في كلّ أرضٍ يسقط عليها شهيدٌ من أجل حقه وأرضه وقيمه وبلده.
ومع كلّ موت شجاع بطولة وانتصار؛ بطولة الشهيد وانتصار مبادئه. هكذا يظلّ الحسين راية تخفق ومنارة تهدي، ومبادئ تطلب أنصاراً.
(5)
ها هي الشرارة التي ولدتها في نفس الحسين معاناة الحسين خلال ست وخمسين سنة من عمره الهاجع في ضمير الإمامة، تستعدّ للوثوب.
والوثبة الجديدة التي سيبثها سيد الشهداء بعد عدّة ساعات ما وثب مثلها بطل من أبطال الملاحم، إنها الشرارة التي سيقدّمها للأمة فتطلقها كلّ مرّة تقع في حفرة الذلّ ومستنقع الاستكانة، فتشبّ معها إلى خلود مقيم، تتذكر بها فتاها سبط الرسول.
يقول الإمام أبو عبد الله في حماسة له ملأ بها أجواء ميدان الشهادة:
أنا ابن عليّ الخير من آل هاشم كفاني بهذا فخراً حين أفخرُ
وجدّي رسول الله أكرم من مضى ونحن سراج الله في الأرض نزهرُ
وفاطمة أمي ابنة الطهر أحمد وعمّي يدعى ذا الجناحين جعفرُ
وفينا كتاب الله أُنزل صادعاً وفينا الهدى والوحي بالخير يذكرُ
ونحن أمان الله في الخلق كلهم نسرّ بهذا في الأنام ونجهرُ
ونحن ولاة الحوض نسقي محبنا بكأس وذاك الحوض للسقي كوثرُ
فيسعد فينا في القيام محبنا ومبغضنا يوم القيامة يخسرُ.