عماد عبد المحسن
تفتخر الأمم بتراثها وقيمها ورجالاتها وإنْ لم تجد خلقت الأساطير والملاحم، والأمة العربية والإسلامية مدينة بشكلٍ خاصٍ لقيمها العظيمة التي كانت عنوان حضارتها وتميُّزِها ((كنتم خير أمة أخرِجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهَوْن عن المنكر)) فأمتنا خير الأمم ما دامت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتجسَّد ذلك في رجالاتها الأفذاذ الذين نذروا أعمارهم في سبيل إعلاء كلمة الله..
ومن عظماء هذه الأمة سيد الشهداء وأبو الأحرار الحسين (ع) . في المسيرة الحسينية نجد الكثير من المواقف الكبيرة يطول شرحها وفي عاشور على وجه التحديد (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء) نأخذ منها ونتزود لحياتنا الدنيا وللآخرة.
يكثر عند المسلمين قولهم (الله أكبر) و(أشهد ألا إله إلا الله) و(سبحان الله) و(استغفر الله) و(إنا لله وإنا إليه راجعون).
نسلط الضوء اليسير في هذه الوقفة على ((إنا لله وإنا إليه راجعون)).. ((راجعون)) عندما تكون في مكان ما وتريد الذهاب إلى مكان آخر تقول (سأذهب إلى ذلك المكان) وعند إرادتك العودة إلى مكانك الأول تقول (سأرجع إلى مكاني) فكلمة الرجوع تعني أنك كنت هناك، أي لا تقول (إنا لله وإنا إليه ذاهبون) بل (راجعون).
وهذا يحمل في طيّاته إيماناً كبيراً بالرجوع والمصير ((أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون))، ((ٱللَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ))، (له ملك السموات والأرض وإلى الله تُرجع الأمور)) والآيات كثيرة في هذا الصدد، ومن ذلك أدركنا أنَّ دنيانا هي دار الفناء وأنَّ الآخرة هي دار البقاء. ومن الجدير بالذكر أنَّ مسألة الرجوع والمصير من المسائل التي أقلقت البشرية منذ القدم فها هُم المصريون قد بنوا أهراماتهم بالشكل المعروف وضعوا فيها موتاهم وملوكهم بعد التحنيط مع أشياء ولوازم كثيرة لماذا؟! وها هُم الهنود يحرقون جثث موتاهم إقراراً منهم بفناء الجسد وتسامي الأرواح أو تناسخها، تتسامى إلى أين؟ وتتناسخ في ماذا؟ وها هُم الرومان يضعون على عيون موتاهم وقتلاهم قطعاً نقدية بقصد ماذا؟ إذنْ هو المصير والرجوع..
وفي هذا وغيره ردٌّ وجواب لمن قال ((ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر))، ((إنْ هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين)) فالمؤمن يؤمن بيوم البعث والنشور ((وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور)) وعند الحسين كما عند جده المصطفى (ص) وأبيه المرتضى (ع) كان هذا الأمر من كبرى اليقينيات، والآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة كثيرة وشاخصة في أذهان المسلمين تؤكد هذا الأمر، وهذا علي أمير المؤمنين يخاطب الرسول عند دفن الزهراء (ع) قائلاً ((قد استُرجعَتْ الوديعة وأُخِذَت الرهينة)) كما قال عندما ضربه ابن ملجم عليه لعائن الله ((فزت وربّ الكعبة)) فقد ورد عنه عليه السلام أنه قال:
((لما أراد الله تبارك وتعالى قبض روح إبراهيم (ع) أهبط الله ملك الموت فقال: السلام عليك يا إبراهيم فقال عليه السلام وعليك السلام يا ملك الموت أداعٍ أنت أم ناعٍ؟ قال عليه السلام بل داعٍ يا إبراهيم فأجب قال إبراهيم (ع) فهل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فرجع ملك الموت حتى وقف بين يدي الله جل جلاله فقال إلهي سمعت ما قال خليلك إبراهيم قال الله جل جلاله: يا ملك الموت اذهب إليه وقل له: هل رأيت حبيباً يكره لقاء حبيبه..)) لذا كان علي (ع) يستأنس بالموت بالخروج من سجن الحياة والالتحاق بالنبيين والصدِّيقين والشهداء عند ربِّ العالمين هذا التعامل مع الحياة على أنها وقت بسيط ثم الانتقال إلى الخلود إلى الجنان ((وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون)).
ومن هذا المنطلق قال عليه السلام:
((الناس نيّام إذا ماتوا انتبهوا)) هذه التربية المحمدية العلوية انعكست في أخلاق الحسين وأهل بيته حتى وقف يصبِّر أهل بيته في عظيم المحنة والابتلاء في عاشوراء قائلاً: ((إن الله تعالى أذن في قتلكم وقتلي في هذا اليوم فعليكم بالصبر والقتال... وقال: صبراً بني الكرام فما الموت إلا قنطرة يعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائم فَأيُّكُم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر)) لله درُّك سيدي عندما يجري على لسانك هذا القول لقد استوعب الحسين عليه السلام قول الله عز وجل ورسالة المصطفى وتعاليم المرتضى حتى اطمأنت نفسه فخاطب أهله بهذه العبارات المؤثرة والعميقة والتي تحمل في طياتها إيماناً كبيراً بالرجوع إلى الله عز وجل والانقلاب إليه ((قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون)) فإيمان الحسين عليه السلام يخبرنا بمصداق قول الله عز وجل ((يومئذ تعرضون لا تخفى منكم
خافية)).
خلاصة القول إنَّ من الدروس المستفادة من الوثبة الحسينية هو التذكير بالرجوع إلى الله والوقوف بين يديه، الأمر الذي يعطي القوة والثبات والصبر على البلاء والامتحان والاتكال على الله عز وجل ((ومن يتكل على الله فهو حسبه)) ((من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب)) وأنَّ بقاءنا في دنيانا إنْ هو إلا يوم أو بعض يوم أو ساعة من نهار أو عشية أو ضحاها أو قليل ((فاصبر صبراً جميلا*
انهم يرونه بعيدا ونراه قريبا))، ((ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأُولئك كان سعيهم مشكوراً)) فإنا لله وإنا إليه راجعون وسلام على الحسين وعلى أولاده وأصحابه وكل يوم عاشوراء وكل أرض
كربلاء.