ثلاث مهارات من الطب النفسي يمكن أن تغيرَ أفكارك
البروفيسور كرستوفر ميلر- طبيب نفسي
ترجمة: أنيس الصفار
عندما اقترحت على أحد مرضاي اعطاءه جلسات علاج بالكلام سألني: "وكيف يمكن أن يفيد الكلام؟"
ثم راح يحدثني كيف شخص وهو بسن الطفولة أنه مصاب بالقلق المرضي، وأنه يعاني من "خلل كيميائي" يتطلب أخذ أدوية نفسية معينة لما تبقى له من عمر. هذه الرسالة سمعها مراراً من أطبائه ووالديه ومعلميه. لكنه لم يكن واثقاً من فائدة ذلك كله، لأن الأدوية لم تبد مجدية حقاً في تخفيف قلقه الذي لا ينتهي وشعوره بهوان قيمته وخوفه المستمر من التعرض لانتقادات الآخرين. بدا هذا الشخص منكسراً، وهو يخبرني كيف إنه لم يجد من يريد الاستماع إلى ما يدور في رأسه من أفكار، اللهم إلا التدريبات المعتادة التي تؤدى لأجل تحسين النوم والشهية والمزاج.بعد أن أنهيت تقييمي لحالته سألته إن كان قد خطر له أخذ علاج بالكلام، فأوضح بأنه قد تفاجأ بالأمر ولم يستطع تقبله، لأن الاخرين كانوا كثيراً ما يثنونه عن هذا العلاج ولا يشجعونه عليه.
كانوا يقولون له: "لم يعد هناك في يومنا من يفعل هذا.." أو: "ثرثرة السايكولوجيين لن تستطيع أن تغير شيئاً".. أو: "عندك من الاصدقاء من يمكنك الكلام معهم.. ولكن كيف لغريب أن يقول شيئاً ينفعك؟"
قال لي بصيغة تقرب من التحدي: "هل لديك دليل على إن العلاج النفسي يغير من حال الدماغ بالفعل؟"
يستمد كثير من الناس شعوراً بالراحة والتخفف لدى أخذهم أدوية العلاج النفسي، وقد أظهرت الابحاث أن مضادات الاكتئاب يمكن أن تغير مسارات نشاطات الدماغ واستجابات التوتر المتعلقة بالاكتئاب والقلق والسلوكيات الاندفاعية وغيرها من الأعراض.
بيد إن هناك آخرين لا يميلون إلى الأدوية النفسية، أو لا يشعرون بالفائدة منها.
لذا يكون من الضروري ايجاد طرق بديلة لتخفيف حدة شعورهم بالضيق.
العلاج النفسي وممارسة التمارين الرياضية والتركيز الذهني واليوغا والتأمل لها كلها على الصحة العقلية مردودات ايجابية مسندة ببيانات علمية مشجعة.
الانواع المختلفة من العلاج بالكلام يمكن أن تؤدي إلى التحسن في جوانب عديدة تتعلق بالشخصية، مثل الشعور بالاعتداد والتفاؤل وفهم المرء لنفسه بوصفه شخصاً متميزاً فريداً، كما تقوي العلاقات مع الاخرين في شؤون مثل التقارب الودي الحميم والتعاطي بالمثل، أي الأخذ والعطاء الصحي الذي نحتاج اليه عند التواصل مع الاخرين. ثبت أيضاً أن العلاج النفسي يخفض المؤشرات الحيوية للتوتر والالتهاب.
الحديث السلبي والعلاج النفسي والدماغ
بعد أن وافق مريضي على تجربة العلاج الذي وصفته له حضر إلى الجلسة الأولى وهو بادي التوتر مطأطأ الرأس كسير النظرات يعصر يديه ويرد على أسئلتي بأجوبة مقتضبة لا تكاد تسمع.
قال لي: "هذا كله لا طائل منه، كل ما ستخبرني به في النهاية هو أنني شخص لا يمكن أسعافه.
سوف نتحدث ونتحدث وفي النهاية ستعطيني دواء على اي حال."
كان المريض يتكلم كمن يردد رسالة رسخت في رأسه بمرور الوقت، وتصوراته عما أفكر فيه كانت نابعة من محفوظات داخلية مقولبة، ومن نماذج العلاقات تلك التي جعلته يفترض أنه شخص ضعيف عاجز وأنني مجرد سلطة هازئة لا تبالي به وتأبى أن تراه انساناً حقيقياً.
لو قيض لنا أن نلقي نظرة على النشاط الدماغي لمريضي خلال ذلك الحديث الداخلي السلبي المرير فربما كنا سنرى تأججاً مفرطاً في مناطق الدماغ المسؤولة عن المشاعر والانفعالات العنيفة، ومن بينها منطقة شبيهة الشكل باللوزة يطلق عليها "أميغدالا" (أي اللوزة).
اشتداد النشاط في هذه المنطقة يقود المرء إلى القلق والاضطراب.
حين تتعرض مشاعرنا للاستثارة يصعب علينا التفكير، وكثيراً ما تبقى الرسالة نفسها تتكرر وتدور داخل رؤوسنا مثل اسطوانة مشروخة.
لذا يصبح التحدث مع أي شخص، ناهيك عن أن يكون شخصاً من غير معارفنا مثل المعالج النفسي الجديد، مطلباً عسيراً ونحن في قبضة الشعور بأننا في وضع مزرٍ (لا سيما اذا
كنا نتوقع المزيد من تلك الرسائل المزعجة).
لغرض مساعدة المرضى على التعامل مع هذه الرسائل السلبية المتكررة، ينبغي تنشيط مناطق الدماغ التي تساعد الشخص على التفكير بمرونة أعلى، مثل منطقة (قشرة الفص الجبهي البطني).
المنطقة المذكورة من مناطق الدماغ الرئيسية التي تشارك في كيفية تواصل الناس مع بعضهم، وهي تقع على السطح الداخلي للدماغ خلف الجبهة وتشارك في بث الشعور بالتعاطف مع الآخرين والتفكير الجمعي المشترك بالمشكلات.
منطقة قشرة الفص الجبهي هذه تعمل أيضاً في الحفاظ على منطقة اللوزة من اطلاق نشاطها أكثر مما ينبغي.
وفي العديد من الحالات النفسية، مثل الاكتئاب والقلق واضطراب التوتر عقب حدوث إصابة، لا تستخدم منطقة قشرة الفص الجبهي بدرجة كافية.
لذا، تبقى المشاعر طافحة متأججة ويصبح من الصعب جداً تغيير "شريط التسجيل" الذي يبقي الافكار السلبية دائرة.
كيف يؤثر العلاج بالكلام في مناطق
معينة من الدماغ
أحد تأثيرات العلاج بالكلام هو أن منطقة "قشرة الفص الجبهي" وسائر مناطق الدماغ المعنية بالادراك وحل المشكلات تصبح أكثر نشاطاً على نحو متزايد فتبقي بذلك المشاعر تحت السيطرة وتعطينا مجالاً لتأمل الاوضاع والتفكير فيها بدلاً من الرد الفوري عليها.
هنا بالذات يأتي دور المعالجين النفسيين حيث يساعدون مرضاهم على تطوير مرونة في التفكير من خلال توفير فسحة زمنية لهم.
فنحن كمعالجين لا نقر للمرضى نظرتهم السيئة عن أنفسهم، كما إننا لا نتلو عليهم نصائح في الحياة يفترض أن تحل لهم جميع مشكلاتهم.
العالم يضغط ويتطلب الحركة. ونحن ندعو إلى التأمل والتفكير.. أنا لا أملي وجهة نظري على مريضي، وكل النظريات التي في مخيلتي يجب أن تنحى جانباً حين أعكف على استكشاف هذا الشخص الذي أمامي.. فهو شخص لا يخضع لوصف أي نظرية من النظريات.
ما أفعله مع مرضاي هو أني اتركهم يكشفون لي بأنفسهم كيف يرون العالم.
هذا الاسلوب يساعد المرضى على الشعور بأنهم اقل تقيداً ويخفف احساسهم بأنهم محاصرون، وبالتالي يتيح لهم سعة اكبر في كيفية تصورهم لأنفسهم وللعالم من حولهم.
في بعض الاحيان، عندما نتوقع من العالم شيئاً معيناً ثم نخرج بشيء مختلف، تنشط "قشرة الفص الجبهي".
يدعى هذا اختلال التوقع، وهو يستنجد بمنطقة قشرة الفص الجبهي لمحاولة استيعاب ما حدث وفهمه، وكان هذا هو عين الوضع الذي وجد مريضي نفسه فيه. من ناحيتي لم اختزل الأمر باعتباره اختلالاً في التوازن الكيميائي يستعان عليه بالأدوية، بدلاً من ذلك حاولت إعطاءه فسحة للحركة والانضمام إليه في تنظيم الايقاع.
حين وجد مريضي أن قوالبه الجاهزة تواجه تحدياً، وعندما تعلمنا كيف ننسق أفكارنا معاً، اصبح اقل تشنجاً وخف توتره فبدأ يتواصل بنظرات العيون ويتوسع اكثر في الحديث عما يشغله، بل صار يمزح وألقى بعض النكات.
لقد بدأ يستجلي حقيقة ذاته بمنأى عن الانماط القوالبية التي اعتاد أن ينظر بها اليه الاخرون.
كيف نستفيد من مهارات العلاج النفسي
في حياتنا اليومية؟
كثير ممن يعانون مشكلة العلة العقلية قد لا يتمكنون من الحصول على العلاج بسبب ارتفاع التكاليف وقلة المعالجين ونقص الرعاية المؤهلة ثقافياً.
ولكن هناك اساليب معينة لإدخال بعض الدروس المستخرجة من العلاج النفسي في حياتنا اليومية.
هذه الاساليب تخلص من نواح عديدة إلى المفهوم الآتي: كيفية تعاملنا مع طريقتنا في التفكير. وفيما يلي بعض النصائح:
اعطِ الأرجحية للتأمل بدلاً من ردود الافعال: حين نعلق في تشابكات انماط تفكير صعبة فذلك إنما يحدث لأننا لم نتوقف للحظة ونأخذ خطوة إلى الوراء كي نعيد تأمل وجهات النظر الاخرى.
فحين نجد أنفسنا واقعين في عقدة افكار مستعصية يكون من المفيد أن نتمالك انفسنا ونخلد للتأمل بحثاً عن طرق أخرى في النظر إلى الموقف.
اجعل اللطف بديلاً للتعادي: في أغلب الاحيان نجد أننا نفترض الأسوأ عندما نتعامل مع الاخرين ونجدهم يقولون أشياء لا نتفق معهم فيها. من المفيد أن نتذكر هنا أن الناس، وإن تصرفوا او تحدثوا بطريقة لا نستسيغها، لابد أن تكون لديهم اسبابهم التي اوصلتهم إلى وجهات النظر تلك. لكن كلما ازدادت قوة مشاعرنا السلبية تجاه الآخرين ازداد ايضاً احتمال أن يعيننا ذلك على معرفتهم بشكل افضل، وهذا يساعدنا على تنمية الشعور بالتعاطف والارتباط معهم.
اجعل حب الاستطلاع بديلا للتعجل بالحكم: العقل البشري شيء معقد وهو قادر على الذهاب بأي مذهب اذا ما أرخي له العنان. من المغري طبعاً الاستسلام للاعتقاد بأن ما نعرفه من شؤون الحياة هو كل ما نحتاج إلى معرفته، في حين أن ابقاء عقولنا متفتحة مستطلعة رغم ذلك ازاء اشياء تحيرنا وتسبب لنا القلق يساعدنا على الاحتفاظ بمرونتنا. فإذا ما ساقتنا أفكارنا إلى زوايا لا تسرنا وتبعث فينا الاحساس بالهزيمة وجب علينا بدلاً من جلد الذات وتقريع انفسنا أن نتقبل الموقف ونرحب به ثم نتفكر فيما يمكننا معرفته عن انفسنا من خلال التمسك بهذا بدلاً من نبذه
والامتعاض منه.
عن صحيفة واشنطن بوست الاميركية