تراث الدمع

ريبورتاج 2023/07/31
...

 هدى عبد الحر


لا أتذكّر متى تحديداً لمحت جدران بيتنا وهي تتشح بالسواد، ربما في عمر الخامسة أو أقل بقليل لكنْ ما أتذكّره جيداً أنَّ السواد كان يعني إيذاناً ببدء محرم الحرام حيث تتشكّل ذاكرتي لترسم صورة لتلك الأيام المختلفة، دخان شهي يعلو أباريق فضية سفعتها نار الموقد المستعرة بالجمر حيث تفوح رائحة الدارسين والشاي والحليب المميز وهو يقدم بفناجين أو أكواب خاصة مع الكعك بصحونٍ بيضاء خزفيَّة، صبية يتعاونون فيما بينهم على إقامة مواكب صغيرة، زحام الناس، الرايات واللافتات التي تحمل اسم الحسين، العيون المتورمة، رائحة الطبيخ المختلف، أصوات النعي التي تصدح من المسجلات.

أما نسوة المنطقة فيجتمعن في أحد البيوت لإقامة مجلس عزاء، لكن لا زينة ولا حلي فهنّ في حداد، كما أنَّ هناك مقولة متوارثة فحواها أنَّ لبس الحلي في محرم يفقد الذهب وزنه (لا تلبسن ذهب.. ينزل وزنه) وعند هذا الجمع الغفير تحضر سيدة كبيرة في السن يجللها الوقار والهيبة (الملاية أو الملة) يميزها لبسها الخاص الهاشمي وهو ثوب فضفاض، قماش خفيف يلبس فوق الثوب الأسود القشيب وتغطي رأسها بعصابة (قوطي من نوعية حرير القز) فوقه شيلة أو فوطة بريسم تثبتها بإحكامٍ بدبايس وهناك عادة معها فتاة صغيرة تحمل (القصائد) المجلدة وتسمى “الصانعة”، وقد اشتهرت أسماءٌ لملايات منهنّ المرحومة وحيدة التي ترتجل الشعر ارتجالاً وقد دفنت تحت ميزاب الذهب بمرقد أمير المؤمنين لما قدمته من جهد للقضية الحسينية ومنهن كذلك الملاية فضيلة التي ذاع صيتها وصارت تقرأ في دول الخليج 

العربي.

ولكلّ أسرة ملاية تقرأ مجلسها مثلاً لأسرة آل الخفاجي أحد بيوتات الكوفة المعروفة كانت هناك الملاية نجية أم كاظمية حيث تحيي المجلس في الأيام العشرة الأولى من شهر محرم الحرام وهو من المجالس المعروفة الذي تحضره عشرات النسوة وكانت تستعين بإحدى بناتها ومساعدتين أخريين. 

ثم بعد وفاتها كانت العلوية الملاية هاشمية رحمها الله، ومن الأسماء الشهيرة غزالة وفضيلة وأمينة وفوزة التي نذرت عمرها لخدمة الحسين فلم تتزوج حتى لا تشغلها العائلة عن أداء مهمتها، ولأنَّ لكل ملة مجلسها الخاص بحيث لا يمكن للملة الأخرى الدخول عليه كما تكون التسمية عندهنَّ وهنالك طقوسٌ خاصة تصاحب هذه المجالس ففي كل يوم يوزع الشاي والحليب والكعك فضلاً عن توزيع (خبز اللحم) في اليوم السابع لسيدنا العباس بن علي (ع)، أو الزردة وهي حلاوة التمن بلون الزعفران، وتوزيع الكباب العراقي المعروف في يوم العاشر، وتكاد تكون هذه الأكلات ثابتة في أغلب المجالس وتسمى هذه الضيافة (الفرگة - التوزيعة - التبرك) كذلك في ليلة عاشوراء يتم إطفاء أغلب مصابيح الإنارة (لأنها ليلة الظلمة) على السيدة زينب تأسياً وحزناً معها.

ومن الجدير بالذكر أنَّ المبلغ المالي الذي يعطى لكل ملاية غير محددٍ ويسمى (نوط) ويكون بحسب مقدرة العائلة المادية فلا يمكن لهن تحديده لأنَّ الأصل في هذه الأمور هو الثواب والأجر.