حسن العاني
في ستينيات القرن الماضي ونحن أبناء عشرين سنة أو بحدود هذا العمر، كنا في أحيان متباعدة نرتاد مقهى خاص بالمتقاعدين كلما صادف مرورنا قريباً منه، وعادة ما يكون مكوثنا قليلاً وعلى قدر احتساء الشاي أو الحامض، ولم يحصل في أية زيارة من تلك الزيارات أن لاحظنا تغيراً على طبيعة ذلك المقهى ورواده العجائز، فهناك حوارات تجري بصوت عالٍ، وهناك ضحك وصخب وعياط يرافق حلقات ألعابهم، النرد أو الدومينو على وجه الخصوص.
وأذكر كيف كنا نتساءل عن سبب اغفال الدولة لهذه الشريحة وعدم الإفادة من خبراتها مثلا، أو عدم توفير أسباب الترفيه والمتعة والسفر والرياضة لهم، بدلا من هذا (القعود) اليومي ساعات طويلة وسط أجواء حافلة بالضجيج والدخان، وقد علقت في ذاكرتي عبارة أطلقها أحد الأصدقاء من باب المزاح حين وصف المتقاعدين بأنهم أصبحوا (إكسباير)، وفيما ضحك معظمنا، تفجر في داخلي حزن عميق، لأن إهمال الدولة هو الذي ألحق بهم ذلك النعت القاسي (إكسباير).
أمام مشاغل الحياة الكثيرة ولقمة العيال ومتاعب الانهماك بالعمل الإعلامي، نسيت ذلك المقهى ولم يصادف مروري قريباً منه إلا بعد عدة عقود، وتحديداً في مايس السنة الحالية، وقد شعرت لحظة دخولي أنني واحد منهم، عجوز يتوكأ على وشالة العمر، ولعلي بحكم الشوق للمقهى وأيامه، لكونه جزءاً من تاريخي المرتبط بتاريخه، أطلت (القعود) فيه أكثر من ثلاث ساعات، وتعرفت على بضعة رواد كانت تربطني بهم علاقة قديمة أيام الشباب، كان الجميع - حتى الذين يمارسون ألعاب النرد والدومينو – يتحدثون عن رواتب المتقاعدين، وعن الميزانية واهتمامها بالتربية والصناعة والزراعة والسكن والصحة والكهرباء، ولكنها لم تتطرق إلى المتقاعدين ولم تأتِ على ذكرهم ولو بجملة واحدة من باب المجاملة، مثلما كانوا يشيرون إلى أخبار تتناقلها مزاعم الانترنت والتواصل الاجتماعي، وعرفت فيما عرفت أن المقهى يضم رواداً اقتربوا من العقد التسعيني أو دون هذا العمر، وأن بعضهم خدم الدولة أكثر من 40 سنة، أو أكثر أو أقل، وأن بعضهم يتقاضى راتباً تقاعدياً يقل عن نصف مليون دينار، وبعضهم يتقاضى راتباً يزيد على مليوني دينار بحكم شهادتهم وعنوانهم الوظيفي وسنوات خدمتهم، ولكن أغرب ما سمعته أن أحد رواد المقهى، عمره (40 سنة)، وقد ظل وفياً لانتمائه للمقهى ورواده فلم يتوقف عن ارتياده، ووجه الغرابة أن خدمته (4 سنوات) فقط، وراتبه (7) ملايين دينار، ولا يحمل شهادة عليا بل شهادة أولية، بكالوريوس من إحدى الجامعات الأهلية، الأمر المؤسف أنني – من باب الحرج – لم أسأل : هل كان هذا المتقاعد يتقاضى مثل هذا الراتب (الضخم) مقابل خدمته (المتواضعة) لأنه قبل أن ينتهي به المطاف رائداً من رواد المقهى، كان رائداً من رواد الفضاء مثلاً، أو أن حكاية الملايين السبعة مجرد إشاعة؟.