سايمون تيسدال
ترجمة: شيماء ميران
كيف من الممكن ان يتكرر رعب كهذا؟ والعالم أدان المذبحة التي حصلت سنة 2003، حتى أن الامم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية قامتا بتحقيق بهذا الشأن، واُتهم الرئيس السوداني السابق عمر البشير وانصاره بالابادة الجماعية وارتكابه جرائم ضد الانسانية. وفي العام الماضي، أجريت محاكمة المشتبه به المدعو "علي كوشيب"، ولا يزال البشير وانصاره المدانين خارج القضية حتى الآن.
لقد عرّفت اتفاقية الامم المتحدة الإبادة الجماعية في العام 1948 بأنها: "اي عمل يُرتكب بدافع التخريب، عموما أو بشكل جزئي على يد مجموعة دولية عرقية او دينية"، محظورة عالميا، والدول ملزمة بمنعها". واليوم، هناك توجه في البحث عن ما حدث في الصين وماينمار واي مكان آخر تحتدم فيه ظروف الاخلال بالاتفاقية وبلا رادع.
ففي السودان تتدهور الأوضاع من سيئ الى أسوء، إذ تحالف الجنجويد مع قوات الدعم السريع، وهي قوات شبه عسكرية تحارب الجيش للسيطرة على البلاد، كان قائدهم معروف باسم "حميدتي" الذي لم يخضع للعدالة مثل الآخرين، وتحذر الأمم المتحدة من ارتكاب الجرائم ضد الانسانية في دارفور بنحو متزايد، وما ستؤول إليه الأحداث يبدو واضحا جدا.
عادة ما تكون الابادة الجماعية حدثا لا يتكرر، وتكون آثارها المرعبة طويلة الأمد حتى أن الناجين يصرون بأنها لن تتكرر. ومع ذلك، حتى هذا الهاجس لم يبدد فقدان الذاكرة العام أو النسيان المتعمد للماضي، ولم يمنع حدوث شبيهاتها اليوم.
مذابح كاليفورنيا
يساعد رفض الاعتراف وتحقيق العدالة لضحايا الإبادة الجماعية في تفسير بقع العمى السياسي والأخلاقي التي نشهدها اليوم. يسلط "إد فوليامي"، المراسل الحربي السابق في الغارديان والأوبزرفر البوسني، في مقال مؤثر في "مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس" الشهر الماضي، الضوء على إحدى حالات "الاختفاء"، وحملة القرن التاسع عشر لإبادة القبائل الاميركية الأصلية في كاليفورنيا.
وذكر تقرير رسمي لاحقا: "لقد حُرموا من حقوق الأرض تماما، وتمت معاملتهم كحيوانات برية، حصدتهم الاسلحة الرشاشة أمام الأنظار، وتم استعبادهم وعملوا في السخرة حتى الموت، وحظرت كل أشكال حياتهم واُدين وجودهم بالكامل. ويوضح "فوليامي" أن الجهود المبذولة لتدمير حياة وثقافة السكان الاصليين لم تكن بنحو وحشي ممنهج أكثر مما كانت عليه في ولاية كاليفورنيا، ومع ذلك، لا أحد يتذكر أو يعلم بها.
يُحسب لحاكم الولاية "جافين نيوسوم"، انه رعى مجلس الحقيقة في كاليفورنيا لغرض جمع شهادات أحفاد الضحايا وصياغة المقترحات لعدالة حقيقية وتعويضية مدعومة. وكان "نيوسوم" واضحا بشأن ما حدث عند تشكيل المجلس بقوله: "إنها إبادة جماعية.. ولا يوجد وصف آخر لها"، وكانت صراحته نادرة
فعلا.
معظم الدول الأوروبية، وخاصة بريطانيا، كانت تظهر في السابق نزعات إبادة جماعية، وأستراليا أيضا. وفي مثال مشابه على طمس التاريخ بنحو مؤلم، الإبادة الجماعية التي قام بها الألمان أوائل القرن العشرين في مستعمراتهم ضد قبائل "هيريرو" و"ناما" والشعوب الأصلية الأخرى في ما يعرف اليوم بناميبيا. إذ اُطلق النار على الآلاف من قبل المستعمرين، واُرسلت الى البلاد صور اباحية لنساء تعرضن للاعتداء الجنسي كبطاقات بريدية. وظهرت الفظائع وأجريت تجارب طبية مروعة على السجناء.
في العام 2021، وافقت ألمانيا (التي اعتذرت في وقت متأخر) على تقديم تعويضات لحكومة ناميبيا. لكن الاتفاقية بقيت معلقة. واعترضت عليها مجموعات أقارب الضحايا لعدم استشارتهم في ذلك الإتفاق. كما هو الحال في إبادة تاريخية أخرى، حيث عانى الأرمن منها خلال العهد العثماني في الفترة ما بين 1915 - 1917، ولا تزال الحقائق عنها متنازع عليها، وتم التنصل من المسؤولية، وبقيت المصالحة بعيدة المنال، فيما يبدو الألم المشار إليه قويا للغاية.
محاكم دولية
اليوم، تحقق محاكمات الإبادة الجماعية تقدما تدريجيا، فمثلا الاسبوع الماضي، أصدرت محكمة في باريس قراراً بسجن رجل الشرطة العسكرية الرواندي "فيليب هاتيغيكيمانا" مدى الحياة لدوره في ذبح 800 ألف شخص، معظمهم من اقليات التوتسي العرقية خلال مذابح سنة 1994. كما حوكم الرئيس اليوغوسلافي الراحل "سلوبودان ميلوسيفيتش" والزعيمان الصربيان البوسنيان "رادوفان كاراديتش" و"راتكو ملاديتش"، بعد حرب البوسنة بتهمة الإبادة الجماعية.
تطبق محاكم ألمانيا وفرنسا مبدأ "السلطة القضائية العالمية"، وتكافح المحكمة الجنائية الدولية التي تعرضت لتقويض كبير من أجل تغطية الكم الهائل من السياسات الفظيعة في جميع أنحاء العالم، كما هو الحال مع المحاكم الخاصة في سيراليون المشابهة لمحاكم يوغسلافيا، بعد أن رفضت اميركا وروسيا والصين مبادئ المحكمة.
عادة ما يتم التعامل مع الابادة الجماعية على أنها حدث نادر، وأنها مزاعم ليس له معنى تاريخي. وتحدث اليوم مذابح في ميانمار، حيث تتعرض أقلية الروهينجا للاضطهاد والتشريد من قبل المجلس العسكري. كما يحدث في الصين من اعتقالات جماعية موثقة، والعمل الإجباري، وأعمال التمييز التي توصف بأنها قسرية، وفصل اجباري للأسر، واضطهاد ديني للاويغور في شينجيانغ.
إن قسوة مذابح دارفور تتناسب تماما مع تعريف الإبادة الجماعية. فلماذا لا تتم ادانتها، ولا يجري توضيح عمق المشكلة من خلال إنكار الابادة الجماعية التي لا يزال العالم يواجهها. وبسبب الافلات من قوانين العقاب، يواصل القتلة القتل. وهذا هو سبب ظهور الجنجويد مرة أخرى.
عن صحيفة الغارديان البريطانية