مخيم جنين تحت مقص اجتياحين.. دليل انتفاء الحاجة لحل الدولتين

بانوراما 2023/08/05
...

  طارق بقعوني*
  ترجمة: مي اسماعيل

قبل حلول نهاية حزيران الماضي ومع مطلع تموز عادت مشاهد العنف في الضفة الغربية إلى الشاشات ثانية، حيث منظر الأطفال والنساء الباكين، والشيوخ الذين يسيرون في الشوارع وأيديهم مرفوعة فوق الرؤوس أو يلوحون بقطع قماش بيضاء من سيارات تتحرك ببطء.. وهي مشاهد كان قد اعتاد عليها الفلسطينيون وعلى أمثالها سابقا، بعد تاريخ من التهجير من قراهم ومدنهم تحت تهديد نيران القوات الاسرائيلية.

أما المشاهد الأحدث فقد كانت خلال اجتياح اسرائيلي جديد لمخيم جنين الفلسطيني وسط الضفة الغربية المحتلة. وقد علق رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو أثناء احتفال في الرابع من تموز الماضي في مدينة القدس بأن الجيش الاسرائيلي قد هاجم ما أطلق عليه “الهدف الأكثر شرعية على ظهر الكوكب.. أناس سيبيدون بلادنا”. وكان يشير هنا إلى أشهر من المقاومة المسلحة من شباب مخيم جنين للاجئين ضد المستوطنين الاسرائيليين. فقبل نحو عشرين عاما قاد رئيس وزراء إسرائيلي يميني آخر (أرييل شارون) هجوما عسكريا مكثفا ضد المخيم ذاته، خلال العام الثاني للانتفاضة الفلسطينية الثانية. وكان انتحاريون فلسطينيون (وبعضهم من جنين) قد هزوا شوارع اسرائيل بتفجيرات كبيرة، ما دفع الجيش الاسرائيلي القيام باجتياح واسع لمدن الضفة الغربية ودمّر خلالها مخيم جنين للاجئين والذي كان (كما هو الحال الآن) مركزا للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الاسرائيلي.

لا أمل بدولة فلسطينية
حدث الهجومان خلال سياقين مختلفين تماما، فما بين العامين 2002 و2023 تفكك وهم تقسيم الأرض إلى دولتين (فلسطين واسرائيل). ولم يعد موضوع التقسيم موجودا الّا في نقاط المحادثات الدبلوماسية، مفرغا تماما من كل محتوى، كما حلَّ محله النقاش والحوار بين المنظمات الحقوقية الدولية والإسرائيلية (ومن بينها- “بيتسيليم” (= منظمة غير حكومية إسرائيلية. المترجمة) و”هيومن رايتس ووتش” ومنظمة العفو الدولية) ويتوصل النقاش في النهاية إلى الإجماع بأن اسرائيل تمارس جريمة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين، وهو توكيد لما يؤمن به الفلسطينيون منذ فترة طويلة. هذا التحول بالكاد يمكن إدراكه بالنسبة لمعظم اليهود الإسرائيليين، إذ ما زالوا يعيشون بشكل فعال ضمن ظروف الحماية كنتيجة لثمن سياسات حكومتهم تجاه الفلسطينيين. أما الفلسطينيون فما زالوا يعانون اليأس والتعب المتصاعد، مطحونين تحت وطأة العنف اليومي. ومع غياب أي أمل بقيام دولة فلسطينية ولا قيادة سياسية فاعلة لتقود الكفاح من أجل هذا الأمل، يأخذ البعض الأمور بأيديهم عبر أساليب المقاومة المسلحة وغير المسلحة. بينما ينهمك البعض الآخر بالجهد القاسي لإعالة أسرهم فيما يعيش الكثيرون تحت نير خوف مستمر.  

إعادة تشكيل الاحتلال
في العام 2002، ورغم تعثر جولة بعد أخرى من المفاوضات بوساطة أميركية، كان لا يزال هناك أمل (وتوقّع) باستئناف عملية السلام. وجرى الترويج لحل الدولتين على أنه الخيار الوحيد للسلام، وكان إطار التقسيم الإقليمي بصفته هو المقاربة السائدة والحل الجاهز لصنع السياسات، يقوم على أن اسرائيل ستنسحب من الأراضي التي احتلتها في حرب العام 1967 مقابل تحقيق السلام مع الفلسطينيين والدول العربية. غير إنه ومع وصول الانتفاضة الفلسطينية الثانية إلى نهايتها، كثفت إسرائيل الإجراءات العملية لتوسيع احتلالها لبقية مناطق الضفة وتقويض حل الدولتين، مع الحفاظ على التظاهر الدبلوماسي بالانخراط في جهود السلام. وبتمويل غربي وعربي، هدأت إسرائيل أوضاع الضفة الغربية بحوافز نيوليبرالية (= الاستفادة من سياسات تعزيز رأسمالية السوق الحرة وإلغاء الضوابط وخفض الإنفاق الحكومي. المترجمة، عن محرك بحث غوغل)، في وقت أفرغت فيه سلطاتها جوهر الاقتصاد الفلسطيني في الضفة ومزقت الأراضي الفلسطينية من خلال المزيد من توسيع المستوطنات الاسرائيلية فيها. كما نفذت السلطات العسكرية الاسرائيلية إجراءات التنسيق الأمني مع حكومة السلطة الفلسطينية، فحولت إدارة السلطة إلى شريك رئيسي لمعالجة المقاومة المحلية وتذويبها. أما حكومة السلطة الفلسطينية فبدأت من جانبها أجندة موسعة لبناء مؤسسات الدولة، حيث سعت إلى إبراز صورة حكومة ذات سيطرة على كل مفاصل الدولة، وهي صورة تُرسي أُسساً لدولة فلسطينية مستقبلية. أما تحت إدارة حكم أرييل شارون، فقد أعادت إسرائيل ومن جانب واحد هيكلة احتلالها لمدن قطاع غزة، وعمدت إلى تفكيك مستوطناتها في القطاع، مع الشروع في فك ارتباط اقليمي احتفل به مؤيدو حل الدولتين، ربما بشكل حقيقي ولكن بسذاجة، كخطوة نحو السلام.. وهي خطوة أظهرت إمكانية الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي، مما يمهد الطريق لحكم فلسطيني نهائي.

تاريخ موغل في المقاومة
يمتاز قطاع غزة (كما هو الحال مع مخيم جنين) بتاريخ طويل من المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي. وبصعود حركة حماس إلى قيادة السلطة في انتخابات العام 2006، شددت اسرائيل (بالتنسيق مع مصر) الحصار المحكم على القطاع وفصلته فعليا عن بقية أجزاء فلسطين، وقامت بأساليب عسكرية شديدة لغرض إجبار سكان القطاع على الخضوع. فإلى جانب سياسات تقييد الغذاء وخنق الاقتصاد، اتخذت تلك الأساليب شكل هجمات عسكرية مدمرة، وهي عقيدة أشار لها العسكر بمصطلح  “جز العشب”، التي تعني نهج استخدام القوة العسكرية غير المتكافئة مع الخصم لإضعاف المقاومة الفلسطينية بشكل دوري وتوجيه حالة من الغضب السكاني المضطرم ضد السيطرة الإسرائيلية. وبعد تطوير تلك الخطط في قطاع غزة، قامت السلطات الاسرائيلية خلال الأونة الأخيرة بتطبيق تلك الخطط العسكرية على مدن الضفة الغربية، فقامت بتطويق مخيم جنين للاجئين وضربته من الجو والأرض ودمرت البنية التحتية الحيوية للمياه والكهرباء، كنوع من أشكال العقاب الجماعي للسكان.
على امتداد الفترة الواقعة ما بين الهجومين على جنين (خلال عقدين من السنين) جرى حصر الفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية بشكل منهجي، وذلك عبر مصادرة الأراضي وهدم المنازل وتوسيع المستوطنات، وتحويلها إلى مراكز حضرية معزولة تحيطها أراضٍ تحتلها اسرائيل. وكما جرى في قطاع غزة، يمكن الآن أن تكون معظم المراكز الحضرية في مدن الضفة الغربية بين عشية وضحاها معزولة تماما عن النظام البيئي المحيط بها، كما هو الواقع الآن في جنين. ففي الوقت الحالي، لم تعد هناك حاجة لدى المسؤولين الإسرائيليين بأن يغلفوا سياساتهم بأساليب ناعمة خوفا من التقريع الدبلوماسي، أو للتخفيف من آثار افتراض التقسيم النهائي. لقد بلغ التحول في الثقافة السياسية الإسرائيلية ذروته في أكثر الحكومات يمينية خلال تاريخ إسرائيل، وقد شهد هذا التحول تسارعا بعد عنف الانتفاضة الثانية وكرسته سياسة الإفلات من العقاب الذي تتمتع به إسرائيل برعاية دولية. وخلال العقدين الواقعين بين هذين الغزوين ( في العامين 2002 و2023)، كشف المسؤولون الإسرائيليون صراحة عن رغبتهم بتعزيز ما وصفته منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية “بيتسيليم” بأنه “نظام التفوق اليهودي” في جميع المناطق الواقعة تحت سيطرتهم. وقبل نحو اسبوعين من هذا الغزو الأخير حث وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير الحكومة على شن هجوم عسكري، كما حث على توسيع المستوطنات بالضفة الغربية، قائلا: “يجب أن يكون ((لنا)) استيطان كامل هنا. يجب أن نستوطن أرض إسرائيل وفي الوقت نفسه نحتاج لشن حملة عسكرية، وأن نفجر المباني ونغتال الإرهابيين الفلسطينيين.. ليس واحدا أو اثنين فقط، بل عشرات ومئات.. أو آلافا اذا اقتضى الأمر”.
 في هذه الأثناء دمجت السلطة الفلسطينية (المتأرجحة فوق حطام خططها لإقامة دولة) بشكل غير قابل للتراجع ضمن هيكل الفصل العنصري الإسرائيلي، والحفاظ على سلطة تشبه سياسة الفصل في جنوب افريقيا، التي تساعد على تهدئة سكانها العرب لتحقيق مكاسب إسرائيلية.

لاجئون من جديد
تحت هذا السياق المتحوّل هناك ثابت واحد هو: قدرة اسرائيل على استمرار الاستيطان في الأراضي الفلسطينية من دون محاسبة، مع مساواة المقاومة الفلسطينية بالإرهاب. إن القبول بهذا التأطير منذ فترة طويلة وتداوله بين القوى الغربية الكبرى هو أمر مثير لغضب الفلسطينيين، وبشكل خاص بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث يجري الترحيب (الغربي) بمقاومة الاحتلال غير الشرعي ووصفه بأنه عمل بطولي، تدعمه الأسلحة الغربية والتدريب العسكري. لقد ترك المجتمع الدولي الفلسطينيين وسط حالة دائمة من انعدام الدولة، محرومين من حق تقرير المصير والدفاع عن النفس. وبينما يستخدم المسؤولون الاسرائيليون علنا عبارات عنصرية، مثل القول أن اسرائيل يجب “أن تمحو” بلدة فلسطينية بالكامل، تدفع إدارة الرئيس الأميركي بايدن جهودها نحو دمج اسرائيل في محيطها الاقليمي العربي عبر اتفاقيات سلام ثنائية، تأسيسا على اتفاقات أبراهام التي أبرمتها إدارة سلفه دونالد ترامب، مع الإشارة “بالكاد” إلى الحقوق الفلسطينية.
أصبح سكان مخيم جنين، الذين فر بعضهم من منازلهم منذ العام 1948 إلى مناطق أصبحت تحت سيطرة ما تعرف اليوم بدولة اسرائيل، لاجئين مرة أخرى. وبعض الذين كانوا صغارا في العام 2002 صاروا اليوم شبابا منخرطين ضمن المقاومة الفلسطينية. وكما علّمنا تاريخ مسيرات كفاح أخرى ضد الفصل العنصري والعنف الاستعماري، فان أطفال اليوم سيحملون السلاح دون شك لمقاومة مثل هذه الهيمنة حتى يتم تهديمها.

صحيفة نيويورك تايمز الاميركية

* طارق بقعوني- كبير المحللين السابق للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في مجموعة الأزمات الدولية، ورئيس مجلس إدارة شبكة السياسات الفلسطينية.