{تختة} الفقير

الصفحة الاخيرة 2023/08/06
...

محمد غازي الأخرس
ويقولون عن الفقير إنه "ممولس" أي أن "برغيه" أو عتلته أصبحت ملساء من فرط حكها أو تجريدها، وهذه لعمري استعارة رائعة، ذلك أن الفقر انجراد، وشأن الفقير دائماً أنه أقرب إلى الشجرة المنجردة.  لذلك يسمى الفقير "مجرود" و"مجبرت"، أي مطلي بالكبريت، لأن من يطلى بالكبريت يجرد من كل شيء، حسب ما يقول عبود الشالچي. من هنا، تنتمي استعارة الانملاس لفقر المرء لدائرة التجريد والتجريف نفسها، وهي دائرة ترادف المعاني الدالة على القطع والقص لوصف الافتقار. تراهم يقولون: فلان مكصكص، أو مكرطف أو منتف، وفلان "مگطع خراجه"، أي وعاء أمواله، وبعض أمهاتنا كن يقلن عن جزادينهن أنها تصوصي، أي تصأى كأفراخ الدجاج الجائعة، وذات مرة توهمت واحدة من قريباتي أنها نسيت جزدانها في بيت، ذهبت ضيفة عليه، ولما فتشت عنه وجدته قريباً منها، فتلمسته وقالت : همزين ما نسيته، چان شكالوا عليه، ما بيه ولا فلس!. 

ولن أنسى في أيام الفقر التسعينية لا أعادها الله كيف أن إحداهن زعلت ذات يوم على زوجها فقالت له بنبرة لا مثيل لخيبتها: هو أني مثل النسوان، حتى جزدان ما عندي!.

ويقولون أيضاً: فلان كعد على الرنكات، والرنكات هي المساند الحديدية التي تفرش بالجلد، وبذا تعني الكناية أن المرء المعني قد خسر كل شيء حتى أنه تجرد مما يقعد عليه، وشبيه به قولهم: كاعد على بساط المروة. 

وبساط المروءة استعارة بديعة تعني الاكتفاء بأقل من القليل مما يحفظ مروءة المرء وكرامته، فلا يمد يده سائلاً الآخرين. والكناية هذه ترادف قولنا أيضاً : كاعد على برودة الكاع، بمعنى أنه مكتف بالعافية والصحة والستر بعد أن يئس من الغنى. 

 لا بد أن نلاحظ هنا أن دلالة التجرد تتداخل دائماً مع دلالة الانكشاف والتعري للإشارة إلى الفقر، فالمصري يقول: قاعد على البلاط، أي أنه في عراء تام. وللتهكم يقول : ايش تاخذ الريح من البلاط، للدلالة على أن الفقير لا يملك ما يؤخذ منه. في معنى مشابه، يقول العراقي: فلان بيته يصوصي مثل الجامع، كونه لا يحوي أي أثاث، ولطالما أشير إلى ذلك مراراً في الشعر، يقول أبو فرعون الساسي واصفاً بيته: منزل أوطنه الفقر فلو .. دخل السارق فيه سرقا.

في دائرة الفقر أيضاً، يذكر عبد الرحمن التكريتي قول العامة "غادي نثر" لمن لا يستطيع دخول السوق لعدم توفر المال. والمعنى أن الفقير غدا من فقره منتثراً أو منثوراً، أي مشتت القوى، وكانت العرب تقول: تناثر القوم إذا مرضوا وماتوا. وليس من الغريب هنا أن يشبه البغدادي الفقر بالمرض فيزعم أنه يعدي، بينما الثراء لا يفعل ذلك لأنه عافية، وهو ما لا يراه المصري، الذي يقول: من جاور السعيد يسعد. 

أخيراً، من الطريف أن يستعير البغدادي "التختة" لوصف حال الفقير فيقول: التختة ما تتحمل بسمار، يعنون أن فلاناً من الفقر صار كالتخت المتهالك لا يحتمل دق مسمار، وهذا ما لدي اليوم عن كنايات الفقر، ولي عودة.