شارع الزعيم.. صياغة ثانية للتاريخ

منصة 2023/08/22
...

  باسم عبد الحميد جمودي


لا يأخذ عباس لطيف في روايته (شارع الزعيم) بعيدا عن ايقاع التاريخ المعاصر مع الأحداث الدرامية الخاصة بشخوص الرواية، بحيث تبدو المزاوجة بين البناء الروائي الخاص  بالبشر وتقاطعاتهم داخل العمل غير متعارض مع البناء التاريخي للأحداث.  وفي نهاية رواية (شارع  الزعيم ) للروائي عباس لطيف تتكامل صورة درامية بدأت تفاصيلها، منذ الصفحة الاولى من هذا العمل  الذي يختار من التاريخ الحديث للعراق حكاية أسرة بغدادية  ومجتمعها المحيط لتشكل العالم الدرامي المنتزع من الصورة التاريخية – الاجتماعية للوطن وهو يتغير.        وتتبلور الإجاث بداية خلال سنوات الحرب مع إيران وسوق الشباب والشيوخ إلى  المحرقة في وقت تقل فيه موارد الأسرة العراقية، ويزداد إيقاع الحياة اليومية شدة وإيذاء لفرط الخسارات  المستمرة.

تشكل أسرة (جلال) الصحفي – المدرس – بائع (الخردة فروش) المكونة منه ومن زوجته (نوال) وولده (سامر) وابنته (احتفال) الركيزة الأولى، التي تشاركها المدرسة (أحلام) حبيبة جلال وزوجته التالية, تفاصيل الأحداث الرئيسة.

تتسع الدائرة الاجتماعية لـ (جلال) لتضاف اليها صديقاه الحميمان: حسن مكرر، وسعيد الرسام, الذي يكون مرسمه مكان اللقاءات الأساسية للفرسان الثلاثة، الذين من بنيتهم الاجتماعية تتوالى الأحداث بصورة ذكية صاغ منها المؤلف  تفاصيل الحياة في بغداد لأسر الأصدقاء الثلاثة، وما يحيط بهم من بشر وما تعايشوا معه من تحارب.

و(شارع الزعيم ) الذي انبنت معظم أحداث الرواية حوله وفيه  هو الشارع البغدادي، الذي يقابل ساحة الفردوس  من  الجانب الآخر، وهو شارع  عرف بعد تموز 1958 باسم (شارع الزعيم ) لوجود الدار التي كان  يستأجرها من دور اليهود المجمدة منذ عام 1948 الزعيم الركن عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء، الذي قاد انقلاب تموز 1958 وأعلن الجمهورية ونفسه قائدا عاما للقوات المسلحة العراقية ورئيسا للوزراء ووزيرا للدفاع.

اتخذ الزعيم من وزارة الدفاع مقرا دائما له، وفيها يعقد اجتماعات مجلس الوزراء وتتخذ القرارات السياسية والاقتصادية المهمة, لكن بيته الأساس ظل منتجعا  للراحة  وللاجتماعات مع الصفوة، وقد استأجر دارا مجاورة  لتكون مقرا لمرافقيه وحرسه الشخصيين.. وكانت دار أم (أحلام) تقع في الشارع ذاته، الذي أضحى مقرا شبه دائم لتجوال العاشقين (جلال ) و(أحلام).

على أسفلت هذا الشارع الذي ينتهي عند البناء الخلفي لإحدى الكنائس التي يطل مدخلها على شارع السعدون, تجري حوارات جلال واحلام  وتوقهما إلى حياة جديدة مشتركة، يتخلص فيها جلال من  ربقة زوجته الأولى (نوال) وضغطها المتواصل عليه، وتستكمل (أحلام) شخصيتها كفتاة تتوق إلى عش زوجي كريم وجدت فيه شخصية (جلال) مناسبة لها.

في دار أحلام في شارع الزعيم تسكن معها والدتها بعد وفاة والدها، الذي كان محبا للزعيم (العميد) عبد الكريم قاسم وجامعا لصوره، وقد رسم له أحد الفنانين لوحة جميلة للزعيم، كان قد وضعها في غرفة الضيوف قبل قيام انقلاب شباط 63 ومقتل الزعيم على يد انصار البعث, وجريان الدم غزيرا في الساحة المقابلة لوزارة الدفاع صباح الثامن من شباط نتيجة اصطدام مهاجمي الزعيم من الضباط الموالين للبعث بالتيارات الشعبية، التي كانت تقاتل بلا سلاح  فعال دفاعا عن الزعيم، وعن الديمقراطية الموعودة.. وعن حرية الفرد والجماعة. 

كان   مؤيدو الزعيم من طبقات  الشعب، يقفون لمساندة القوات التي تحت قيادته في وزارة الدفاع،  وهي تجابه قوات عسكرية اكثر بعد تخاذل الكثيرين من الآمرين والقادة، وبذلك سقط نظام (الزعيم)، لتتولى الحكم  مجموعة من البعثيين والقوميين، تولى فيها العقيد عبد السلام محمد عارف (نائب الزعيم السابق الذي أدين سابقا بتهمة محاولة اغتيال الزعيم وسجن لفترة ثم أطلق سراحه) رئاسة الجمهورية  والعقيد احمد حسن البكر رئاسة الوزراء والعميد رشيد مصلح منصب وزير الداخلية  اضافة إلى منصب الحاكم العسكري العام.

رشيد مصلح هذا  أذيع بأسمه البيان رقم (13 ) الشهير، الذي يعلن الشروع بإبادة الشيوعيين والقوى المساندة لهم (لوقوفهم ضد ثورة شباط التي بدات في 14 رمضان), وقد كان واحدا من الضباط اليمينيين، الذين  وقفوا ضد تجاوزات  الحرس القومي (وهي قوات حزبية شكلها البعثيون كمليشيا خارج سياقات القوات المسلحة)، وقد تم اعدامه هو بتهمة التجسس بعد عودة البعث للحكم اثر انقلاب 17 تموز 68.

 الروائي عباس لطيف يروي  وقائع أحداث شارع الزعيم، التي كانت أحداثا لم تمس أسرة (أحلام) فقط، بل كل الشعب العراقي الذي دخل في سلسلة نزاعات متوالية قاده فيها حكام قصيرو النظر, فكروا بـ(عظمة) ما يفعلون لأنفسهم، وقادوا شعبهم إلى سلسلة من  إيقاعات حياة سلبية سقطت فيها تلك الأنظمة واحدة بعد أخرى، ليجد الأمريكان والقوى الدولية المتحالفة معهم الذريعة طازجة أمامهم، عندما دخلت قوات من الحيش العراقي أرض دولة جارة واحتلتها.

وإن كانت قيادة الكويت قبيل احتلاله، قد وقفت بوجه تسلط النظام العراقي واستفزته ورفضت دفع اموال أدعى رأس النظام حق العراق فيها، فإن ذلك كان أحد الأسباب، الذي دفعت صدام حسين إلى دخول البلد الجار واحتلاله، وتهجير معظم سكانه  وترحيل معدات  الوزارات الكويتية إلى بغداد, وكان أمر النهب المعيب كان مرتبا مسبقا كما هو ظاهر.

تحمل الشعب العراقي كل مغامرات النظام السابق وحربه مع ايران،  ثم حربه  التالية ووقوع العراقيين ولسنوات تحت خط الفقر ومعاناتهم الجوع وقلة الموارد الشخصية, وبالتالي حدوث اختلال في الشخصية العراقية، وفي موازين الحقوق والواجبات الأسرية والوطنية والأمثل كثيرة تقدم بعضها رواية (شارع الزعيم ).

من هذه الاختلالات هروب صديقي  جلال من الجيش وتنكرهما بهويتين مزورتين، وقيامه وهو المثقف بالعمل كبائع (خردة فروش)، أمام طلبته في السوق  وهو المدرس الملتزم، وقيام فاضل راضي  مدير المدرسة الثانوية، التي كان  يحاضر فيها بالتحرش  بمعاونة المدرسة (أحلام)، ومحاولة فرض نوع من القسر العاطفي عليها، وهو يجد ذلك التعلق الواضح بينها وبين جلال.

تتوالى الأحداث متسارعة وتدخل الرواية في منعطفات الصورة العامة للبلد، وهو يتغير انسانيا وسياسيا وتضيع فيه صيغ وتقاليد، لتبنى بدلها صيغ جديدة مؤلمة تضيع فيها المقاييس  وتغدو التفاصيل مدهشة ومثيرة  لاستغراب المراقب، رغم واقعيتها ومنها:

قيام مختار المنطقة وابنه  بإخراج سعيد الرسام  من الدكان، الذي كان يستأجره منهما لتحويل المكان إلى مطبعة سرية لطبع العملة المزيفة، وعند إلقاء القبض عليهما بعد فترة يطلق سراحمهما لقاء مبلغ كبير!

لاتقف حكاية صباح ووالده المختار عند هذا الحد، بل يرشح أحمد نفسه في انتخابات المجالس الجديدة التي ظهرت بعد سقوط نظام البعث، ثم قيامهما بالحصول علي مقاولات كبيرة مكنت احمد بعد ذلك من الطلب من سعيد كتابة مذكراته (النضالية).

-  قيام سليم شقيق احلام بالتعاون مع زوجته بإخراج شقيقته وامه من الدار في شارع الزعيم  واجبارهما على شراء بيت صغير خارج المنطقة، تمهيدا لبيع البيت الذي شكل بنية عاطفية لدى الأم ولدى أحلام ذاتها.

كان بيع الدار في شارع الزعيم خطوة للإطاحة بمعالم  تاريخ حب  وتجربة استمرت، رغم هذا وتوجت بالزواج بين  الحبيبين، لكن بيت شارع الزعيم  المستباح،  يشكل واقعا تاريخيا يساير أحداث ساحة الفردوس القريبة، التي لا تتطابق مع حدث بيع البيت، بل تتعاكس بسقوط تمثال صدام حسين في الساحة على يد المتظاهرين، الذين اسقطوه ايذانا بانتهاء عهد دموي رافضين اسقاطه من قبل الجنود الأمريكان  الذين كانوا في المكان.

مما يذكر هنا أن ساحة الفردوس المواجهة لشارع الزعيم، كانت حتى السبعينيات من القرن الماضي ساحة لبناء الجندي المجهول التقليدي الذي يتشابه في كل التجارب الدولية، لكن النظام هدم ذلك البناء ذا المعمار الجميل، وبنى جنديا محهولا آخر قريبا من مقر الحكم في القصر الجمهوري ضمن مواصفات لا تمت لفكرة الجندي المجهول السائدة.

إنه جندي مجهول من طراز آخر لا يمت للبنية الفكرية والحضارية لفكرة الجندي المجهول التاريخية، ولكنها محاولة للتميز والتفوق الساذجتين. 

- وصول مدير الثانوية المتصابي (فاضل) إلى درجة مدير عام التربية ومحاواته عرقلة تعيين جلال مرة أخرى

-  كشف واقع الكتابة الصحفية بعد التغيير ودخول ارض العمل الكثير من طلاب الشهرة القليلي الموهبة والذرائعيين ومالكي رؤوس الاموال وانحسار الكتابة الجادة والخبر المدروس

-  الاغرب من ذلك اعتبار (أحمد) الشاب ابن حسين شهيدا وهو حي, وكان (احمد) منتسبا إلى جهة أمنية، تم الهجوم عليها بمفخخة في الشارع من قبل الإرهابيين واستشهاد بعض أفراد دورية أحمد، الذي أصيب بجروح تم شفاؤه منها بعد فترة... وحين راجع الجهة، التي كان منتسبا إليها لاستمرار عمله وجدهم، قد اعتبروه شهيدا، وله راتب شهيد على والده استلامه!

- فتح القوات المحتلة المتحف والبنك المركزي  والمصارف الاخرى للسرقة، ورسم خطة منظمة لاحراق مصادر الذاكرة العراقية من مكتبات وسجلات.

-  كل هذه التفاصيل المؤلمة ترصدها الرواية عبر حوارات الاصدقاء الثلاثة، وعبر سير الاحداث يتزوج الحبيبان، ويجد سعيد رفيقة حياته،  ويقتل سامر ابن جلال وهو ينفذ تفجيرا انتحاريا بتاثير خاله, حيث يكتشف جلال أن ولده هذا هو الذي هدده برصاصات وضعها في مغلف،  رماه في بيت والده ليهجره من داره، وقد حصل هذا وسافر جلال وزوجته أحلام إلى سوريا لفترة ليعود وقد تغيرت الحال.

إن رواية (شارع الزعيم ) تتماهى مع الواقع الحديد ويخوض الابطال فيها تجاربهم في صراع مستمر مع الجوانب المدانة في بناء بعض الشخصيات محاولين تحقيق سعادة ناقصة رغم كل شيء.