الآن وليس مستقبلاً العمارة العائمة

بانوراما 2023/08/22
...

 فرانسيسكا بيري

 ترجمة: مي اسماعيل

في المسعى البشري لمعالجة أزمة المناخ، هناك وقائع في مناخنا المتغير باتت امراً واقعاً يتعين التعايش معها. أصبحت مستويات مياه البحار ترتفع بمعدلات متسارعة، ويقدر ما ستواجهه السواحل الاميركية ارتفاعا للمياه بنحو 10-12 أنجا (25-20 سم) عام 2050. حذر الأمين العام للأمم المتحدة أن مجتمعات ودول بأكملها قد تختفي خلال العقود المقبلة نتيجة لتغير المناخ، وهذا الخطر قد يطال على وجه الخصوص نحو تسعمئة مليون إنسان يعيشون في المناطق الساحلية المنخفضة. اختبرت بعض تلك المناطق المهددة بالفعل فيضانات مدمرة، ولكن بدلا من بناء جدران ضد تدفق مياه البحر أو منازل على ركائز متينة، اختار بعض المعماريين تصميم مستقبل يتعايش مع الماء.. وفوقه!

احتلت مقترحات لــمدن عائمة "مقاومة للمناخ" (بضمنها- مستوطنة طموحة في المحيط في كوريا الجنوبية وأخرى كبيرة تستوعب نحو عشرين الف شخص في المالديف) العناوين. لكن المشاريع الموجودة بالفعل، من لاغوس إلى روتردام، أظهرت كيف يمكن أن تبدو الحياة فوق الماء، وبأساليب يمكن توسيع نطاقها. بحث المكتب المعماري "NLÉ" بقيادة "كونليه أدييمي" (وموقعه في أمستردام ولاغوس) مشاريع المباني العائمة في روتردام بهولندا، تحت عنوان "مدن الماء- روتردام"، وقام بأختبارات حول المباني العائمة عالميا. واليوم هناك مجموعة من الأجنحة العائمة التي نشأت عن مشروع مدرسة ماكوكو العائمة، ونالت استحسان النقاد. 


رؤية تحققت

ماكوكو منطقة مركزية بالعاصمة النيجيرية لاغوس، حيث يعيش آلاف الاشخاص في هياكل خشبية غير رسمية مبنية على ركائز متينة في البحيرة. وباستلهام فكرة تلك المستوطنة، بنى "أدييمي" مدرسة لسكانها عام 2012. استذكر المعماري فيضانا كبيرا ضرب لاغوس عام 2011، قائلا: "غرقت شوارع بأكملها بالمياه، وأدركتُ أن مدنا ستغرق لكن سكان ماكوكو كانوا يتكيفون بالفعل.. وكان ذلك أشبه برؤية تجلت". 

يمكن الوصول للهيكل الخشبي الهرمي للمدرسة بواسطة القوارب، وهي تضم غرفا محمية للصفوف وفضاء لعب مشترك لعشرات التلاميذ. وبدلا من استناده إلى ركائز، يطفو المبنى على قاعدة من البراميل البلاستيكية. انهارت القاعدة بعد بضع سنوات، وأوضح المكتب أن المبنى كان مؤقتا منذ وقت تشييده، وأن غياب الصيانة والإدارة الإدارة الجماعية أدت إلى تدهوره. استنادا إلى تلك التجربة مضى مكتب "NLÉ" لتطوير "نظام ماكوكو العائم"، وانتج مجموعة من الهياكل الخشبية المستدامة التي يمكن تركيبها وتفكيكها سريعا حسب الحاجة والوقت. وهو نظام معياري "modular" (ذو وحدات نمطية متشابهة المقاييس والأبعاد. المترجمة) مع وصلات فولاذية أكثر كفاءة، مصممٌ بشكل كبير لتلبية قوانين البناء الأوروبية. يتألف نظام ماكوكو العائم ("MFS") من أجزاء مسطحة مسبقة الصنع (prefabricated) يمكن تجميعها على أيدي فريق من خمسة أشخاص خلال اسبوعين، دون معدات ثقيلة أو رافعات. 

يقول أدييمي: "هدفنا خلق حل شامل لا يترك أحدا خلفه في هذه المرحلة من التغير المناخي. وأن نتأكد، بينما يتغير العالم، وأننا نستطيع انقاذ أكثر المجتمعات ضعفا". يوفر النظام نسخا صغيرة ومتوسطة وكبيرة من الهيكل الهرمي، ويؤمن أدييمي بأنه نظام يمكن استخدامه لغايات متنوعة، من الاسكان إلى التعليم، وأنه.. "حل يمكن تطبيقه عالميا". جرى تشييد النظام في دول متعددة، منها- ايطاليا وبلجيكا والصين، لغرض اختبارها تحت ظروف مائية ومناخية متنوعة.  

صنع مبدأ المباني العائمة لنفسه جذورا شبه دائمية عام 2021 في مدينة مينديلو الساحلية بكيب فيردي، قبالة الساحل الافريقي الغربي، بصيغة "مركز موسيقي عائم". يتألف هذا المركز الحضري من ثلاثة سرادقات هرمية مصنوعة من الخشب والحديد، تضم فضاء للأداء ومقصفا ومطعما وستوديو تسجيل، جميعها عائمة على البحر ومتصلة بممر مع اليابسة.  


مدينة دلتا

لعل من المناسب أن تستضيف مدينة روتردام معرضا لتقنيات نظام ماكوكو العائم "MFS"، إذ أنها المدينة الهولندية الأكثر عرضة لمواجهة مخاطر ارتفاع المياه. يقع نحو تسعين بالمئة من مساحة المدينة تحت مستوى سطح البحر، لذا فان منظر المباني العائمة فيها ليس بالشيئ الجديد. وهناك في ارجاء المدينة نماذج من عمل مكاتب تصميم مختلفة تتحدى مستقبلا يغزوه الماء. أحدى تلك المشاريع يضم 17 منزلا عائما تحت اسم "ناسوهيفن- Nassauhaven"، أنشأتها شركة "معماريو المجال العام- Public Domain Architects (PDA)" المحلية. فاز التصميم بجائزة حكومة المدينة في مسابقة لتطوير مشاريع معمارية تجريبية يمكنها ضمان مستقبل روتردام. يقول "بيتر فيجدور" الرئيس التنفيذي لشركة PDA: " نحن مدينة دلتا ومستويات المياه تتغير"، مؤكدا ان الاهتمام تزايد بالمباني العائمة خلال السنوات القليلة الماضية، إذ أقيم مجمّع للمكاتب ومزرعة عائمة هناك. جرى اعتماد "ناسوهيفن" باعتباره أول منطقة سكنية عائمة بالمدينة، تتجاور مساكنها في صف مُرتّب ويشار إليها بإسم "الشارع العائم". تجلس المنازل الخشبية على عوامات خرسانية، متصلة بأعمدة مع أرضية الميناء وبممرات مع اليابسة. ترتفع تلك المنازل وتنخفض بهدوء مع المد والجزر اليومي، مع بقائها مريحة للشاغلين. صُممت المنازل لتكون محايدة من حيث الطاقة، مع ميزات الاستدامة- مثل الألواح الشمسية وتدفئة الكتلة الحيوية وتنقية مياه الصرف الصحي موقعيا. 


تعلُّم العيش مع الماء

يري "فيجدور" أن البناء فوق الماء واحد من الخيارات القليلة المتبقية قدر تعلق الأمر بالمباني السكنية الجديدة في روتردام، وانه أمرٌ أكثر مرونة من مجرد إنشاء حواجز لإبقاء المياه بعيدا عن المباني على الأرض، قائلا: "على الماء نكون في المكان الأكثر أمانا للتكيف مع المناخ".  يعمل مكتب PDA على مزيد من المشاريع العائمة في بنغلادش وروتردام، ويأمل أن يوسّع تجربة "ناسوهيفن" بتشييد حيٍ سكني من نحو مئة منزل أو أكثر. كما يمتلك أدييمي خططا مشابهة لإقامة محلة سكنية وفق نظام ماكوكو العائم في امستردام، وهي بالفعل موطن للعديد من تجمعات المنازل العائمة. ويسعى مكتبه لتوسيع نظام الهياكل العائمة ليشمل مبان متعددة الطوابق يدعوها: "ناطحات سحاب مائية". يعتقد أدييمي انه لم تجرِ بحوث كافية حتى الآن حول كيفية البناء والعيش فوق الماء، وهو يُشكل نحو سبعين بالمئة من سطح الارض، ويأمل ان تملأ دراساته وأعماله ذلك الفراغ على ضوء ارتفاع مستويات مياه البحار، قائلا: "ستعيش الحضارة الإنسانية في المستقبل القريب أكثر على الماء، فلماذا نحارب المياه بينما يمكننا أن نتعلم التعايش معها؟".