ظريفة بشور: درست الطبَّ لمساعدة ضحايا {الدايات}

منصة 2023/08/23
...

  بيتي فرح

يراقب الطفل محيطه الذي يفتقر إلى الكثير من مقومات النهوض، يرسم في مخيلته أحلام المستقبل، وقلة من الأطفال يسير حلمهم في طريق الواقع ليقترن لاحقا  بالملموس، وفي مسيرة الطفلة  "ظريفة بشور" لا وجود للحظ  والصدفة.
بل للإرادة والإصرار حد العلم والتعلم.
ولدت "ظريفة  بشور" عام 1881 في  مدينة صافيتا، التي تتبع حاليا لمحافظة طرطوس، والتي كانت جزءا من السلطنة العثمانية في تلك الحقبة من سوريا، اشتهرت  تلك المنطقة بخلوّها من الأميين، وإنجابها عددا من الوطنيين والأطباء والكتّاب والفنانين والمختصين بعلوم أخرى، كتبت أسماؤهم على لوائح الشرف العلمي والعالمي في الوطن والمهجر، عاشت  ظريفة طفولة عادية كبنات جيلها، ولكن جلّ ما كان يميزها هو تفوقها الدراسي في مدرسة الأمريكان في بلدتها، ويحكى أنها قطعت مسافة 60 كم، تمتطي الجواد  باتجاه طرابلس، لإكمال دراستها في المدرسة الأمريكية للبنات هناك، حيث رافقها رجل وسيدتان لوجوب حمايتها من مخاطر الطريق.
وبعد إكمال دراستها الثانوية التي تزامنت مع تخرج شقيقها الدكتور بشور من جامعة إلينوي في شيكاغو، ونيله شهادة الطب متخصصا بأمراض القلب، فكان الطبيب القانوني الوحيد في منطقة صافيتا، والمعتمد من السلطات التركية التي سمحت له بافتتاح عيادة طبية.
ولأنها شقيقته المدللة، سمح لها بمرافقته إلى العيادة خاصته، حيث لاحظت أن  من يرتاد العيادة هم الرجال والأطفال فقط، باستثناء العنصر النسائي، لتكتشف لاحقا أن سبب امتناعهن عن عرض أنفسهن على الطبيب هو الخجل، والنتيجة ازدياد عدد الوفيات عند النساء لاختيارهن القابلات القانونيات، اللواتي ارتكبن الكثير من الأخطاء الطبية مع السيدات  أثناء الحمل والولادة، ووصفهن للعلاجات الشعبية التي تنم عن جهل طبي، مما عرض حياتهن للخطر، لتبقى هذه الفكرة في مخيلتها وتكون حافزا رئيسيا لدراسة الطب.
 بعد مرور السنوات، تتخرج ظريفة في المدرسة الأمريكية في طرابلس بدرجة امتياز، بحضور شقيقها الذي جاء خصيصا من أمريكا لحضور حفل تخرجها، حيث أشادت المدرسة أمامه بالصبية الذكية وشجعته على مؤازرتها للسفر إلى أمريكا لمتابعة تحصيلها العلمي، وتم ذلك، فركبت البحر باتجاه القارة الأمريكية في رحلة شاقة استمرت شهرين، وكان ذلك في عام 1907، لتبدأ مسيرتها الحافلة بالعطاء، في حقبة كانت المرأة السورية فيها شبه
مغيّبة.
وقبل انطلاق الباخرة سألت ظريفة أخاها إن كان سيُسمح لها بالعمل في سوريا بعد عودتها، ليجيبها :"عندما تحصلين على شهادتك يكون الأتراك قد رحلوا عن
سورية".
وبسبب الفكر السائد في المجتمع السوري آنذاك، الرافض لتقبل عمل المرأة خارج المنزل وجنيها للمال، لأن ذلك عار على رجال العائلة، خلق لديها مزيجا من الفخر والحزن معا، بسبب غضب الوالد وعدم تقبله قرارها الجريء، وبالتالي مراهنتها على الوقت الكفيل بتغيير موقفه، إلا أن القدر كان أقسى، فقد رحل الوالد قبل عودتها إلى سوريا بيومين فقط.
تحققت آمال الدكتورة ظريفة، حيث تخرجت في جامعة إلينوي في شيكاغو عام 1911 واختصت بأمراض النساء والتوليد والأطفال، وعادت إلى سوريا عام 1912، لكنها لم تستطع مزاولة المهنة في صافيتا، بسبب منع النساء من العمل من قبل القانون العثماني، فاضطرت إلى العودة مجددا إلى طرابلس وافتتحت عيادتها النسائية
هناك.
الدكتورة ظريفة بشور واحدة من نساء سوريا المؤثرات في المجتمع السوري خاصة والعربي عامة، فتحدي مجتمع خاضع للاحتلال العثماني المبني على الجهل والقمع ليس بالأمر السهل من جهة، وقرارها الجريء بالعودة إلى الوطن المحتل من جهة أخرى.
في مجتمع السقف المهني للمرأة فيه هو التطريز والحياكة ومزاولة مهنة القبالة، أما سقف الثقافة المسموح  به لهن هو القراءة والكتابة فقط، ولكن هناك استثناءات تتمثل بأذهان تجاوزت حدود البيئة وما فيها من انغلاق فكري واجتماعي، ومثال على ذلك الشقيق الطبيب الذي نوّر العلم رأسه، وانفتح على  ثقافات أخرى جعلته على يقين أن للمرأة السورية حقها في الحياة والتأثير، وباستطاعتها ان تؤدي  دورا فاعلا  في المجتمع.
وإصراره على دعمها في غربتها حتى ارتدت "مريول الأطباء الأبيض"، فالدعم العائلي المقترن بالإرادة والإصرار سبب لنجاح رائدة الطبيبات العربيات الدكتورة ظريفة بشور، التي قدمت بعدا اجتماعيا ونفسيا ميزها عن غيرها من بنات جيلها اللواتي تزوجن باكراً، وقدمن عقولهن قبل أجسادهن للمتطلبات الجديدة.
فاختيارها  لدراسة الطب هو لمساعدة النساء اللواتي كنّ ضحايا جهل "الدايات" بالتعامل مع الحالات المرضية الخطرة التي أسفرت في كثير من الأحيان عن الوفاة.
مسيرة طويلة من العمل الشاق انتهت في منزل والدها الكائن في صافيتا عن عمر ناهز 87 عاما، سنة 1968.
من المهم تسليط الضوء على الأسماء العربية التي تركت بصمة في الأرشيف الإنساني المكرّم من الغرب والمغيّب محليا.
ودوما تنادي المجتمعات الثقافية بوجوب تسليط الضوء عليها إعلاميا، وتكريمها في الندوات والمؤتمرات الثقافية للتعريف بها، بالإضافة إلى تغيير المناهج الدراسية، التي تقف على أطلال لن تجد، واستبدالها بشخصيات أضافت وأثرت بمجتمعاتنا العربية في حقبة منسيّة وإعادتها للحياة، لتكون حافزا، لهذا الجيل المدمن على شخصيات "التيك توك" وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي التي تسهم بشكل كبير في تخريب عقول اليافعين، والدكتورة ظريفة أنموذجا مؤثرا ونجمة عربية في سماء الأمس القديم، لأنها أول طبيبة عربية في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، أوطان أنجبت المناضلة والمتعلمة والمؤثّرة وكذلك
الطبيبة.
علّها تسهم في خلق نهضة فكرية منتظرة.