معركة انتخابيَّة مبكّرة في إيران وسباق نحو البرلمان
جواد علي كسار
يمكن القول إن المرشد الأعلى هو من أعطى إشارة البدء المبكرة، لمقدمات معركة انتخابات الدورة التشريعيَّة الثانية عشرة، المقرّرة يوم
الجمعة 1 آذار المقبل، عندما وضع لمسؤولي البلد وقواه السياسية مركباً من أربع ستراتيجيات؛ هي المشاركة وكثافة الحضور، المنافسة، الشفافية وسلامة إجراء الانتخابات والحفاظ على نتائجها، وأخيراً الإجراءات الأمنية للحفاظ على أمن العملية الانتخابية. كما زاد في الشحنة قانون الانتخابات المعدل أو الجديد، عندما أجبر القوى السياسية بجميع ألوانها وانتماءاتها، معها المستقلون والمرشحون الفرديون، على تقديم ترشيحهم مبكراً، عبر قوائم أو على نحو فردي، وهو ما تم فعلا في سابقة لا نظير لها إبان الدورات الإحدى عشرة السالفة من الانتخابات التشريعية، عندما أعلنت الداخلية أن منصتها استقبلت تسجيل (48,847) ألف مرشح، حتى اليوم الأخير من المهلة الرسمية، ما يعني أننا أصبحنا فعلا أمام المرحلة التمهيدية الأولى لبدء المعركة الانتخابية.
منهج المقال
يركز المقال على عيّنات مختارة من مواقف القوى السياسية، تكشف عن خرائط البارز من هذه القوى، وما تذهب إليه من قناعات وتحليلات، تماشي وضع البلد واللحظة الحاضرة في إيران، إلى أبعد المديات. فمن تيار الأصولية الوسطية المعتدلة، أخذنا البرلماني والسياسي محمد رضا باهونر؛ ومن التيار الإصلاحي السياسي والمنظر سعيد حجاريان؛ ومن التيار المهني الاختصاصي (التكنوقراط) محسن هاشمي رفسنجاني؛ لنختم مع إشارة مكثّفة لمدلولات الإخفاق أو النجاح في صلة العملية الانتخابية بشرعية النظام السياسي ومستقبله، أخذناها من ملاحظات مكثّفة للأكاديمي الطالع رحمن قهرمان پور.
مثلث حجاريان
سعيد حجاريان (معاصر، ولد: 1954م) إسلامي يساري، أمني من الطراز الأوّل يُعدّ من مؤسّسي وزارة الأمن (اطلاعات) في عصر الجمهورية الإسلامية، وبعدها من منظري الحركة الإصلاحية الخاتمية، إن لم يكن منظرها الأوّل، وقد قدّمناه على باهونر لأنه سبقه في الكلام عن الانتخابات، وقد كان باهونر من بين من ردّ عليه.
يقرّر حجاريان أنَّ الفاعلين الأساسيين المؤثرين في السياسة الإيرانية الآن، هم الحكومة والمجتمع والقوى الخارجية، لكنَّ هؤلاء الثلاثة لا يشكلون مثلثاً متساوي الأضلاع، بل يتقدّم الدور الحكومي. وأهمية هذا التحليل أنه يعترف صراحة، بدورٍ للخارج في الشأن السياسي الإيراني الداخلي. أحد أبرز وجوه تقدّم الدولة يتمثل باحتكار السلطة للأمر السياسي، وتدخلها المطلق بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل وبأسلوب الحياة نفسها، تحت عنوان التكليف الشرعي. إذا كانت السياسة تبدأ بتقلص مساحة تدخّل الدولة بالشأن العام، فأيّ معنى يبقى للسياسة مع الدور المطلق الذي تمارسه الحكومة في هذا المرفق، تحت عنوان الرسالة الشرعية؛ يتساءل حجاريان؟!.
الأصولية والإصلاحية
عندما تسأله صحيفة “اعتماد” الإصلاحية التي أجرت معه المقابلة (نشرت بتاريخ: السبت 24 حزيران الماضي) عن التوصيف الذي يقدّمه للاتجاهين الأصولي والإصلاحي، يجيب بأنه لا يجد فرقاً يُذكر بين عناوين الجبهة الأصولية على تعدّدها، قدر ما يرى توحّدها في خصلتين، هما الطاعة والتسليم من جهة، والعنف والإقصاء من جهة أخرى، ومن ثمّ فإنَّ إيران الآن تعيش أصولية بسنخية واحدة وخصلتين مشتركتين، مع غياب الحركة والإبداع، وفقر في الحامل النظري.
على العكس من ذلك تعيش الحركة الإصلاحية، برأيه، ضرباً من الثراء النظري والقدرة على عرض بدائل أفضل لإدارة البلد، وهي تحمل هموم الناس بيدَ أنها مقصيّة، تعيش بعض فصائلها حالة من الإحباط الشديد، لكنَّ الوقت والمستقبل يعملان لصالحها، بحسب قوله.
وسط تراوح العمل السياسي بين الاستحالة والإمكان بعد احتكاره من قبل الحكومة، سادت حالة من غياب الخطاب والمشروع السياسي المنتج، وقد امتدّ ذلك إلى خارج مجال السلطة أيضاً، وعبر إلى النخب والشعب، بسبب اشتراكهما بغياب لوازم العمل السياسي، ما دفع إلى التفكير بخيارات بديلة امتدّت من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، تمثلت بعناوين تبدأ من مطالبة البعض بالجمهورية العلمانية حلاً، إلى الإمارة الإسلامية كبديل، في نوع من الانسحاب إلى دائرة اليأس، أو السقوط في ما يسميه بإغراءات الجنوح صوب التدمير الذاتي.
الشعبوية الفقيرة
يصبّ حجاريان غضبه على حكومة رئيسي ويرى بالتحليل أنها شعبوية الماهية، تعيش على الشعارات، واضحة العجز. وإذا كانت ماهية الحكم الشعبوي قد ارتبطت في تاريخ رؤساء إيران، بالرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد (2005 - 2013م) فإنَّ حجاريان يحذّر من المماثلة بينهما رغم شعبويتهما، لأنَّ حكومة المعاجز بحسب وصفه (كناية عن حكم الرئيس نجاد وقد كان يستغرق في كلام المعجزات) لا تُقارن بحكومة إبراهيم رئيسي الحالية، فقد كانت حكومة نجاد شعبوية لكنها غنية تملك الأموال وتنفقها على الناس، فكوّنت لنفسها شعبية حقيقية، بعكس حكومة رئيسي التي اقترن حكمها بالفقر وقلة الإيرادات، ومشكلات الحصار وهبوط قيمة العملة، فصارت شعبويتها شعبوية فقيرة لم تستأثر بقاعدة تأييد عريضة.
الإصلاح الثلاثي
يرفض حجاريان أطروحة الدكتاتور المصلح لأنها بمنزلة السمّ المهلك لإيران. ويدعو إلى تقليص سلطة الحكم في الشأن السياسي العام، وإيقاف تورّط الحكومة بانتهاك الشأن الخصوصي، ووضع حدّ لإشكالية الحكم الحالية القائمة برأيه؛ على أساس تعتيم ما هو عام وستره، في مقابل انتهاك ما هو خاص؛ وأن يكون الحلّ جذرياً بالإصلاح الثلاثي، وتعميم الأمر السياسي.
كثيراً ما نقرأ في السجال بل الاستقطاب الحادّ بين الأصوليين والإصلاحيين، أنَّ الإصلاح عنوان بلا معنون، بل أكثر من ذلك يتحدّى الأصوليون الإصلاحيين، في إعطاء تعريف أو بيان واضح متفق عليه، لمعنى الإصلاح والمراد منه. لكن ما نجده في هذا الحوار لحجاريان، هو غاية الوضوح في بيان الإصلاح والمقصود منه.
فبشأن متعلق الإصلاحات يبيّن حجاريان ثلاثة حقول مترابطة عضوياً ومتكاملة؛ يتمثل الحقل الأول بإصلاح الحكم عبر إصلاح الكادر الإنساني الحاكم نفسه، الحافّ بدوائر القرار العليا من رئيس جمهورية ووزراء ومستشارين ونوّاب برلمان وأعضاء الهيئات العليا وهكذا. أما الحقل الثاني فيتّجه إلى إصلاح منظومة القرار، في حين يتمثل الحقل الثالث بإصلاح بنيوي جذري لمرتكز منظومة الحكم برمّتها، متمثلاً بالدستور، ليكون الإصلاح الدستوري هو النوع الثالث من الإصلاح.
تتكامل العملية الإصلاحية وتتعزّز قوّتها، بممارسة الإصلاح على مستوى الدوائر الثلاث؛ الإصلاح في دائرة الحكم والكادر الإنساني، إصلاح القرار، وأخيراً الإصلاح الدستوري. وما يذهب إلى تقريره سعيد حجاريان، أنَّ توازن القوى العلوي هو العتلة الموجّهة لبوصلة هذه الدوائر الثلاث في حركة الإصلاح، والحلّ برأيه ليس الانتخابات بما هي انتخابات، بل الضغط على السلطة وإجراء التسويات من خلال هذه الضغوط، لأنَّ من طبيعة السلطة أنها لا تعدّل من ميزان وجودها وسلطتها، ولا تتراجع إلا بالضغط.
أخيراً، المطلوب برأي حجاريان هو إنهاء الانسداد ووضع حدّ للعجز، بإقناع الحكومة بالاستقالة، وأن تكون حكومة لمدّة واحدة (أربع سنوات فقط) ولا يُجدّد لها ثانية، ولا مانع أن يكون البديل من داخل صفوف الجناح الأصولي نفسه وبترتيب منه، لأنَّ أيَّ بديل كما يقول حجاريان، هو أفضل من الخسارة المحضة المتمثلة بالوضع الحالي.
تحذير باهونر
محمد رضا باهونر (معاصر، ولد: 1952م) شقيق رئيس الوزراء الثاني للجمهورية الإسلامية الشيخ محمد جواد باهونر، وصاحب أطول تجربة نيابية امتدّت على (28) سنة (سبع دورات) بات يُصنّف الآن على التيار الأصولي الوسطي المعتدل، وهو التيار الذي تصطفّ في أعلاه رمزيات سياسية مثل ناطق نوري وحسن روحاني وعلي لاريجاني وعلي مطهري، وغيرهم كثير ممن يودّون أن يروا أنفسهم ضمن هذا التيار، الذي تعود مرجعياته الإطارية إلى جماعة العلماء المجاهدين (جامعه روحانيت) وقبله حزب الأرستقراطية الإسلامية وتجار طهران؛ حزب القوى الإسلامية المؤتلفة (حزب مؤتلفه اسلامى) بالإضافة إلى الواجهات التابعة، وعلى رأسها الاتحاد الإسلامي للمهندسين (جامعه اسلامى مهندسين) الذي يرأسه باهونر نفسه.
يسجّل باهونر مفتتح لقائه مع صحيفة “جوان” اليومية المصنّفة على الحرس الثوري، بأنَّ المرشد اهتمّ شخصياً بشأن الانتخابات البرلمانية المقبلة قبل أشهر من موعدها، في سابقة لا نظير لها بالمقارنة مع الدورات الانتخابية السابقة، بل وخلافاً لمألوف عادته إذ كان ينهى عن التورّط بالحملات الانتخابية المبكرة.
من بين الستراتيجيات الأربع التي عرض لها المرشد، يذهب باهونر إلى أهمية عنصر المشاركة الشعبية الواسعة والحضور المكثّف في الانتخابات، وتقدّمه على العناصر الثلاثة الأُخر. عند هذه النقطة يسجّل باهونر بوضوح المسؤولية الأساسية للحكم في توسيع رقعة المشاركة، من خلال موقعين على خطّ المسؤولية، الأول هو اللجنة المركزية للانتخابات التي تعمل تحت إشراف وزارة الداخلية، والثاني وهو الأهمّ مجلس حماية الدستور (شوراى نگهبان).
نقد مهذب
يذكر باهونر صراحة أنَّ مجلس الدستور واللجنة العليا بمقدورهما رفع مستوى المشاركة الشعبية في الانتخابات المقبلة، ثمّ تأتي بعد ذلك أدوار البقية كمؤسّسة الإذاعة والتلفزة الرسمية، ووسائل الإعلام الأخرى ومواقع التواصل الاجتماعي، والقوى السياسية، في إشارة نقدية مهذّبة، تحذّر من إمكان تكرار ما حصل في انتخابات 2020م النيابية، من تدنّي نسبة المشاركة لكن بسيناريو أسوأ.
أجل، هناك جهات في البيروقراطية الإدارية يمكن أن يكون لها دور مثبط أو سلبي في المشاركة، لاسيّما المؤسّسات الأربع التي لها حقّ الاستعلام عن وضع المرشح؛ وهي دائرة النفوس، القوّة القضائية، وزارة الأمن، وأمن الحرس الثوري، لكنَّ أثرها وإن كان مهمّاً بيدَ أنه لا يرقى إلى مستوى مجلس المحافظة على الدستور، إذا ما انزلق إلى الممارسة السلبية.
إلى جوار إصراره على أن تعمل المرجعيات الأربع بمنطق الدليل وأسلوب الوثيقة في رفض من ترفض أهليته، يدعو باهونر مجلس الخبراء إلى خفض مستوى التوتر والحساسيات والتحلي بالمرونة وسعة الصدر، والابتعاد عن أسلوب المسطرة والحافات الحادّة في تقييم وضع المرشحين. فبحسب تعبيره ليس المطلوب من المرشح للبرلمان أن يكون عابداً متبتلاً مؤدّياً لصلاة الليل، بل يكفي الالتزام بالمبادئ العامة.
ثمّ يتجه بكلامه إلى مجلس الدستور كجهة مسؤولة عن تقرير أهلية المرشحين، ليسجّل في نص على غاية الوضوح والصراحة: “أنا كأصولي أعلن الآن، أنني أعرف عدداً كبيراً من الإصلاحيين، ملتزمين ومؤمنين بالثورة والنظام والوحدة الوطنية وخطّ الإمام، بل أنَّ بعضهم مقلّد للقائد، لكنَّ غاية ما هناك قد يكون لهم موقف مني مثلاً، فهل ينبغي إقصاء هؤلاء من الساحة بإلغاء ترشيحهم؟!”، يجيب: كلا، بل ينبغي فتح الساحة أمام هؤلاء، حتى يقنع الناخبون بوجود مختلف الأطياف السياسية، ويندفعوا باتجاه صناديق الاقتراع.
المال الانتخابي
يحذّر باهونر من خطورة اللعب بالدوائر الفردية، عندما يذكر وجود (190) دائرة بمرشحين فرديين من مجموع (290) عضواً هم مجموع البرلمان. مردّ ذلك أنَّ القاعدة الانتخابية الشعبية لهؤلاء تقوم على أساس الانتماءات القرابية والعشائرية والأثنية والمناطقية والصنفية، أكثر من ارتكازها إلى العلائق السياسية، ومن ثمّ فإنَّ إلغاء أهلية أي مرشح في هذه الدوائر من قبل مجلس الخبراء، يعني مجازفة كبيرة باتجاه تقليص المشاركة الانتخابية لجماهير هؤلاء المرشحين. يقرّ باهونر في الحوار مع صحيفة “جوان” بظاهرة بيع الأصوات، وتوزيع الأموال لشراء الأصوات، وبظاهرة المال الانتخابي، وأنها تمثل مشكلة فعلية في الواقع الانتخابي. أضف إلى ذلك وجود مشكلة القوائم في المدن الكبرى كطهران، وحساب النتائج على أساس الفوز المطلق للقائمة التي تحصد أكثر الأصوات، مقابل حذف حصة بقية القوائم مهما بلغت، وقد أخفق القانون الانتخابي الأخير بمعالجة هذه المشكلة.
الحل الحزبي
حين افتخرت وزارة الداخلية باستقبال منصتها نحو (50) ألف مرشح؛ ذهب باهونر إلى أنَّ كثرة عدد المرشحين مشكلة وليست منجزاً قطّ، وهو مؤشر خطير لتدهور العمل السياسي السليم في البلد. ففي الانتخابات البرلمانية السابقة، سجّل نحو (15) ألف مرشح، أي بمعدّل (50) مرشحاً للكرسيّ البرلمانيّ الواحد، وفي الانتخابات الحالية تضاعف عدد المرشحين ثلاث مرّات، ما يعني تفاقم المشكلة.
يعزو باهونر هذه الظاهرة إلى غياب الحزبية الحقيقية في إيران، فرغم كثرة عدد الأسماء المسجّلة على لائحة الداخلية، إلا أنها لا تعدو أن تكون واجهات انتخابية، تستعمل لمرّة واحدة ثمّ ينتهي دورها. والمطلوب برأي باهونر هو تنظيم الحياة السياسية في إيران على أساس وجود حزبين أو ثلاثة أحزاب، قوية وطنية ودائمة، وعندئذ لن يتعدّى عدد المرشحين الألف، بأي حال.
وللحق والإنصاف لاحظتُ من خلال متابعة الشأن الإيراني، أنَّ باهونر هو من بين قلة سياسية تصرّ منذ سنوات على إدخال إصلاح جذري على العمل السياسي في البلد، من خلال إلغاء اللوحة الهلامية المنتفخة الزائفة (الكوكوتيل) للحزبية الإيرانية الحالية، واستبدالها بالحزبية الحقيقية، على أساس وجود عدد من الأحزاب العابرة للمناطقية والمحلية والجهوية والهويات الفرعية، إلى الأفق الوطني الواسع.
أخيراً حذّر باهونر الإصلاحيين في هذا اللقاء من مغبّة مقاطعة الانتخابات، كما أشار إلى أنَّ الإشكالية الكبرى للأصوليين هي التشرذم وغياب الوحدة.
كان طموح المقال أن نستمرّ في تغطية آراء محسن هاشمي رفسنجاني ورحمان قهرمان بور، لكن اكتفينا هنا باستعراض تفصيلي لوجهتي نظر حجاريان وباهونر لضيق المساحة، على أن نعود إلى الاثنين الآخرين في مقال لاحق إن شاء الله.