رأس الحسين {ع} وقراءة القرآن
وسام الفرطوسي
روى هلال بن نافع قال: إني كنت واقفاً مع أصحاب عمر بن سعد - لعنه الله - إذ صرخ صارخ: أبشر أيها الأمير فهذا شمر قتل الحسين، قال: فخرجت بين الصفين، فوقفت عليه وإنه ليجود بنفسه، فوالله ما رأيت قط قتيلا مضمخاً بدمه أحسن منه، ولا أنور وجهاً، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيئته عن الفكرة في قتله، فاستسقى في تلك الحال ماءً، فسمعت رجلا يقول: لا تذوق الماء، حتى ترد الحامية، فتشرب من حميمها.
فسمعته يقول: يا ويلك، أنا لا أرد الحامية، ولا أشرب من حميمها، بل أرد على جدي رسول الله (ص)، وأسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأشرب من ماءٍ غير آسن، وأشكو إليه ما ارتكبتم مني وفعلتم بي.
قال: فغضبوا بأجمعهم، حتى كأن الله لم يجعل في قلب أحد منهم من الرحمة شيئاً، فاجتزوا رأسه وإنه ليكلمهم فتعجبت من قلة رحمتهم، وقلت: والله! لا أجامعكم على أمر أبداً.
يا عدو الله ورسوله
وروي أنَّه لما اجتز الشمر - لعنه الله - رأس الحسين (عليه السلام) أخذه وعلقه على فرسه، وكان رأس الحسين (عليه السلام) يكلمه بلسانٍ فصيح، ويقول: يا شمر يا شقي الأشقياء يا عدو الله ورسوله فرقت بين رأسي وجسدي، فرق الله بين لحمك وعظمك، وجعلك نكالاً للعالمين.
فرفع اللعين سوطاً كان بيده ولم يزل يضرب الرأس حتى سكت عن الكلام، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأنا والله لا أستطيع قتال اللعين ابن اللعين الذي يضرب رأس الحسين، وليس بيدي سيف ولا كعب ولا رمح ولكن صبرت حتى يحكم الله تعالى، وهو خير الحاكمين.
قالت سكينة: لما قتل الحسين (ع) اعتنقته، فأغمي علي، فسمعته يقول:
شيعتي ما إنْ شربتم ري عذب فاذكروني
أو سمعتم بغريب أو شهيد فاندبوني
فقامت مرعوبة قد ترحت مآقيها، وهي تلطم على خديها، وإذا بهاتف يقول: بكت الأرض والسماء عليه * بدموع غزيرة ودماء. ولم يستطع أحد أنْ ينحيها عنه حتى اجتمع عليها عدة وجروها بالقهر.
ثم حمل عمر بن سعد أسارى أهل البيت (ع)، ورؤس الشهداء إلى الكوفة، وكان رأس الحسين (ع) يقرأ القرآن في الكوفة وهو على الرمح.
روى أبو مخنف عن الشعبي: أنه صلب رأس الحسين (ع) بالصيارف في الكوفة، فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف إلى قوله: ﴿إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى﴾ فلم يزدهم ذلك إلا ضلالاً.
وفي أثر: أنهم لما صلبوا رأسه على الشجرة سمع منه: (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)، وسمع أيضاً صوته بدمشق يقول: لا قوة إلا بالله.
وسمع أيضا يقرأ: ﴿أم حسبت أنَّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آيتنا عجبا﴾، فقال زيد بن أرقم: أمرك أعجب يا ابن رسول الله.
روي أن عبيد الله بن زياد - لعنه الله - بعد ما عرض عليه رأس الحسين (ع)، دعا بخولي بن يزيد الأصبحي - لعنه الله - وقال له: خذ هذا الرأس حتى أسألك عنه. فقال: سمعاً وطاعة. فأخذ الرأس وانطلق به إلى منزله، وكان له امرأتان أحدهما ثعلبية، والأخرى مضرية، فدخل على المضرية، فقالت: ما هذا؟
فقال: هذا رأس الحسين بن علي (ع، وفيه ملك الدنيا.
فقالت له: أبشر، فإنَّ خصمك غداً جده محمد المصطفى (ص)، ثم قالت: والله لا كنت لي ببعلٍ، ولا أنا لك بأهلٍ، ثم أخذت عموداً من حديد وأوجعت به دماغه.
فانصرف من عندها، وأتى به إلى الثعلبية، فقالت: ما هذا الرأس الذي معك؟
قال: رأس خارجي خرج على عبيد الله بن زياد، فقالت: وما اسمه؟
فأبى أنْ يخبرها ما اسمه، ثم تركه على التراب وجعله على إجانة.
قال: فخرجت امرأته في الليل فرأت نوراً ساطعاً من الرأس إلى عنان السماء، فجاءت إلى الإجانة فسمعت أنيناً، وهو يقرأ إلى طلوع الفجر، وكان آخر ما قرأ: ﴿وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون﴾، وسمعت حول الرأس دوياً كدوي الرعد، فعلمت أنه تسبيح الملائكة.
فجاءت إلى بعلها، وقالت: رأيت كذا وكذا، فأي شيء تحت الإجانة؟
فقال: رأس خارجي فقتله الأمير عبيد الله بن زياد - لعنه الله - وأريد أنْ أذهب به إلى يزيد بن معاوية - لعنه الله - ليعطيني عليه مالاً كثيراً.
قالت: ومن هو؟
قال: الحسين بن علي، فصاحت، وخرت مغشية عليها، فلما أفاقت، قالت: يا ويلك، يا شر المجوس لقد آذيت محمداً في عترته، أما خفت من إله الأرض والسماء، حيث تطلب الجائزة على رأس ابن سيدة نساء العالمين.
ثم خرجت من عنده باكية، فلما قامت رفعت الرأس وقبلته، ووضعته في حجرها، وجعلت تقبله، وتقول: لعن الله قاتلك، وخصمه جدك المصطفى.
فلما جن الليل غلب عليها النوم، فرأت كأنَّ البيت قد انشق بنصفين، وغشيه نور، فجاءت سحابة بيضاء، فخرج منها امرأتان، فأخذتا الرأس من حجرها وبكتا.
قالت: فقلت لهما: بالله، من أنتما؟
قالت إحداهما: أنا خديجة بنت خويلد، وهذه ابنتي فاطمة الزهراء، ولقد شكرناك وشكر الله لك عملك، وأنت رفيقتنا في درجة القدس في الجنة.
قال: فانتبهت من النوم والرأس في حجرها، فلما أصبح الصبح جاء بعلها، لأخذ الرأس، فلم تدفعه إليه وقالت: ويلك طلقني، فوالله لا جمعني وإياك بيت.
فقال: ادفعي لي الرأس، وافعلي ما شئت، فقالت: لا، والله لا أدفعه إليك فقتلها. وأخذ الرأس فعجل الله بروحها إلى الجنة، جوار سيدة النساء.
البهبهاني: في شرح الشافية، عن أبي مخنف قال: حدثني من حضر اليوم الذي ورد فيه رأس الحسين (ع) على ابن زياد لعنه الله قال: رأيت قد خرجت من القصر نار، فقام عبيد الله بن زياد هارباً من سريره إلى أنْ دخل بعض البيوت، وتكلم الرأس الشريف بصوت فصيح جهوري، يسمعه ابن زياد ومن كان معه: إلى أين تهرب من النار؟ يا ملعون لئن عجزت عنك في الدنيا فإنها في الآخرة مثواك ومصيرك.
قال: فوقع أهل القصر سجداً لما رأوا من رأس الحسين (ع)، فلما ارتفعت النار سكت رأس الحسين (ع).
السلام عليك يا قتيل الأم
وروي مرسلاً عن بعض الثقات، عن أبي سعيد الشامي، قال: كنت يوماً مع الكفرة اللئام الذين حملوا الرؤوس والسبايا إلى دمشق، فلما وصلوا إلى دير النصارى وقع بينهم أنَّ نصر الخزاعي قد جمع عسكراً ويريد أنْ يهجم عليهم نصف الليل، ويقتل الأبطال، ويجندل الشجعان، ويأخذ الرؤوس والسبايا، فقال رؤساء العسكر من عظم اضطرابهم: نلجأ الليلة إلى الدير ونجعله كهفاً لنا، لأنَّ الدير كان محكماً لا يقدر أنْ يتسلط عليه العدو، فوقف الشمر (لعنه الله) وأصحابه على باب الدير وصاح بأعلى صوته: يا أهل الدير فجاءه القسيس الكبير، فلما رأى العسكر قال لهم: من أنتم، وما تريدون؟
فقال الشمر (لعنه الله): نحن من عسكر عبيد الله بن زياد، ونحن سائرون إلى الشام.
قال القسيس: لأي غرض؟
قال: كان شخص في العراق قد تباغى وخرج على يزيد بن معاوية وجمع العساكر، فبعث عسكراً عظيماً فقتلوهم، وهذه رؤوسهم، وهذه النسوة سبيهم.
قال الراوي: فلما نظر القسيس إلى رأس الحسين (ع) وإذا بالنور ساطع منه إلى عنان السماء فوقع في قلبه هيبة منه، فقال القسيس: ديرنا ما يسعكم، بل ادخلوا الرؤوس والسبايا إلى الدير وأحيطوا بالدير من خارج، فإذا دهمكم عدوٌ قاتلوه ولا تكونوا مضطربين على الرؤوس والسبايا.
فاستحسنوا كلام القسيس وقالوا: هذه هو الرأي، فحطوا رأس الحسين (ع) في صندوق وقفلوه وأدخلوه إلى الدير والنساء وزين العابدين، وجعلوهم في مكانٍ يليق بهم.
قال: ثم أنَّ صاحب الدير أراد أنْ يرى الرأس الشريف، وجعل ينظر حول البيت الذي فيه الصندوق، وكان له رازونة، فحط رأسه فيها، فرأى البيت يشرق نوراً ورأى أن سقف البيت قد انشق ونزل من السماء تخت عظيم، وإذا بامرأة أحسن من الحور جالسة على التخت، وإذا بشخص يصيح: أطرقوا ولا تنظروا، وإذا قد خرج من ذلك البيت نساء، وإذا هنَّ حواء وسارة وأم إسماعيل وأم يوسف وأم موسى ومريم وآسية ونساء النبى (صلى الله عليه وآله).
قال: فأخرجن الرأس من الصندوق، وكل من تلك النساء واحدة بعد واحدة يقبلن الرأس الشريف، فلما وقعت النوبة لمولاتي فاطمة الزهراء (عليها السلام) غشي عليها وغشي على صاحب الدير، وعاد لا ينظر بالعين بل يسمع الكلام، وإذا بقائلة تقول:
السلام عليك يا قتيل الأم السلام عليك يا مظلوم الأم السلام عليك يا شهيد الأم لا يتداخلك هم ولا غم، وإن الله تعالى سيفرج عني، وعنك يا بنى من ذا الذي فرق بين رأسك وجسدك؟
يا بني من ذا الذي قتلك وظلمك؟
يا بني من ذا الذي سبى حريمك؟ يا بني من ذا الذي أيتم أطفالك؟
ثم إنها بكت بكاءً شديداً.
فلما سمع الديراني ذلك اندهش ووقع مغشياً عليه، فلما أفاق نزل إلى البيت وكسر الصندوق واستخرج الرأس وغسله وحنطه بالكافور والمسك والزعفران، ووضعه في قبلته، وهو يبكي ويقول: يا رأس من رؤوس بني آدم ويا كريم ويا عظيم جميع من في العالم أظنك من الذين مدحهم الله في التوراة والإنجيل، وأنت الذي أعطاك فضل التأويل، لأن خواتين السادات من بني آدم في الدنيا والآخرة يبكين عليك ويندبنك، أنا أريد أن أعرفك باسمك ونعتك.
فنطق الرأس بقدرة الله تعالى وقال: أنا المظلوم، أنا المهموم، أنا المغموم أنا الذي بسيف العدوان والظلم قتلت، أنا الذي بحرب أهل البغي ظلمت، أنا الذي على غير جرم نهبت، أنا الذي من الماء منعت، أنا الذي عن الأهل والأوطان بعدت.
فقال صاحب الدير: بالله عليك، أيها الرأس زدني.
فقال: إن كنت تسأل عن حسبي ونسبي، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن على المرتضى، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا بن خديجة الكبرى، أنا ابن العروة الوثقى، أنا شهيد كربلاء، أنا قتيل كربلاء، أنا مظلوم كربلاء، أنا عطشان كربلاء أنا ظمآن كربلاء، أنا غريب كربلاء، أنا وحيد كربلاء، أنا سليب كربلاء، أنا الذي خذلوني الكفرة بأرض كربلاء.
قال الراوي: فلما سمع صاحب الدير من رأس الحسين (ع) ذلك جمع تلامذته وحكى لهم الحكاية وكانوا سبعين رجلاً، فضجوا بالبكاء والعويل، ورموا العمائم عن رؤوسهم، وشقوا أزياقهم، وجاؤوا إلى سيدنا زين العابدين (ع) وقد قطعوا الزنار، وكسروا الناقوس، واجتنبوا فعل اليهود والنصارى، وأسلموا على يديه، وقالوا: يا ابن رسول الله مرنا أنْ نخرج إلى هؤلاء الكفار ونقاتلهم ونجلي صداء قلوبنا بهم، ونأخذ بثار سيدنا ومولانا الحسين (ع).
فقال لهم الإمام (ع): لا تفعلوا ذلك فإنهم عن قريب ينتقم الله تعالى منهم، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وفي رواية: أنه لما حمل رأسه إلى الشام جنَّ عليهم الليل، فنزلوا عند رجل من اليهود، فلما شربوا وسكروا قالوا: عندنا رأس الحسين فقال: أروه لي، فأروه وهو في الصندوق يسطع منه النور نحو السماء فتعجب منه اليهودي، فاستودعه منهم وقال للرأس: اشفع لي عند جدك.
فأنطق الله الرأس فقال: إنما شفاعتي للمحمديين، ولست بمحمدي.
فجمع اليهودي أقرباءه ثم أخذ الرأس، ووضعه في طست وصب عليه ماء الورد وطرح فيه الكافور والمسك والعنبر، ثم قال لأولاده وأقربائه: هذا رأس ابن بنت محمد.
ثم قال: يا لهفاه حيث لم أجد جدك محمداً (ص) فأسلم على يديه، يا لهفاه حيث لم أجدك حيا فأسلم على يديك وأقاتل بين يديك، فلو أسلمت الآن أتشفع لي يوم القيمة؟
فأنطق الله الرأس فقال بلسان فصيح: إن أسلمت فأنا لك شفيع. قاله ثلاث مرات وسكت، فأسلم الرجل وأقر باؤه.
تلاوته (ع) للقرآن في الشام
أبو جعفر الطبري: وأخبرني أبو الحسين محمد بن هارون، عن أبيه، عن أبي علي محمد بن همام، قال: أخبرنا جعفر بن محمد بن مالك، قال: حدثنا أحمد بن الحسين الهاشمي - قدم علينا من مصر -، قال: حدثني القاسم بن منصور الهمداني بدمشق، عن عبد الله بن محمد التميمي، عن سعد بن أبي طيران [خيران]، عن الحارث بن وكيدة، قال:
كنت فيمن حمل رأس الحسين (ع) فسمعته يقرأ سورة الكهف.
فجعلت أشك في نفسي وأنا أسمع نغمة أبي عبد الله (ع)، فقال لي: يا ابن وكيدة أما علمت أنا معشر الأئمة أحياء عند ربنا نرزق؟
فقلت في نفسي: أسترق رأسه، فنادى: يا ابن وكيدة ليس لك إلى ذلك سبيل، سفكهم دمي أعظم عند الله تعالى من تسييرهم رأسي، فذرهم فسوف يعلمون (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون).
وعن المنهال بن عمر قال: أنا والله رأيت رأس الحسين (ع) حين حمل وأنا بدمشق، وبين يديه رجل يقرأ الكهف حتى بلغ قوله: ﴿أم حسبت أن أصحب الكهف والرقيم كانوا من آيتنا عجبا﴾، فأنطق الله الرأس بلسان ذرب ذلق فقال: أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي.
وعن سلمة بن كهيل قال: رأيت رأس الحسين (عليه السلام) على قناة، وهو يقرأ: ﴿فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم﴾.
روي عن سهل بن سعيد الشهرزوري، قال: خرجت من شهرزور أريد بيت المقدس، فصار خروجي أيام قتل الحسين (عليه السلام) فدخلت الشام فرأيت الأبواب مفتحة، والدكاكين مغلقة، والخيل مسرجة، والأعلام منشورة، والرايات مشهورة، والناس أفواجاً امتلأت منهم السكك والأسواق، وهم في أحسن زينة يفرحون ويضحكون فقلت لبعضهم: أظن حدث لكم عيد لا نعرفه؟
قالوا: لا. قلت: فما بال الناس كافة فرحين مسرورين؟
فقالوا: أغريب أنت، أم لا عهد لك بالبلد؟
قلت: نعم، فما ذا؟
قالوا: فتح لأمير [المفسدين] فتح عظيم، قلت: وما هذا الفتح؟
قالوا: خرج عليه في أرض العراق خارجي فقتله، والمنة لله وله الحمد قلت: ومن هذا الخارجي؟
قالوا: الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، قلت: الحسين بن فاطمة بنت رسول الله؟
قالوا: نعم قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإن هذا الفرح والزينة لقتل ابن بنت نبيكم؟ وما كفاكم قتله حتى سميتموه خارجيا؟
فقالوا: يا هذا أمسك عن هذا الكلام واحفظ نفسك فإنه ما من أحد يذكر الحسين بخير إلا ضربت عنقه، فسكت عنهم باكياً حزيناً، فرأيت باباً عظيماً قد دخلت فيه الأعلام والطبول، فقالوا: الرأس يدخل من هذا الباب فوقفت هناك وكلما تقدموا بالرأس كان أشد لفرحهم وارتفعت أصواتهم وإذا برأس الحسين والنور يسطع من فيه كنور رسول الله (ص) فلطمت على وجهي، وقطعت أطماري وعلا بكائي ونحيبي، وقلت: وا حزناه للأبدان السليبة النازحة عن الأوطان، المدفونة بلا أكفان، وا حزناه على الخد التريب والشيب الخضيب، يا رسول الله ليت عيناك تريان رأس الحسين في دمشق يطاف به في الأسواق، وبناتك مشهورات على النياق مشققات الذيول والأزياق ينظر إليهم شرار الفساق، أين علي بن أبي طالب يراكم على هذا الحال؟
ثم بكيت وبكى لبكائي كل من سمع منهم صوتي، وأكثرهم لا يلتفتون بي لكثرتهم وشدة فرحهم واشتغالهم بسرورهم وارتفاع أصواتهم، وإذا بنسوة على الأقتاب بغير وطأ ولا ستر، وقائلة منهن تقول: وا محمداه وا علياه وا حسناه لو رأيتم ما حلَّ بنا من الأعداء يا رسول الله بناتك أسارى كأنهن بعض أسارى اليهود والنصارى، وهي تنوح بصوت شجي يقرح القلوب على الرضيع الصغير، وعلى الشيخ الكبير، المذبوح من القفا، ومهتوك الخبا، العريان بلا رداء، وا حزناه لما نالنا أهل البيت، فعند الله نحتسب مصيبتنا.
قال: فتعلقت بقائمة المحمل وناديت بأعلى الصوت: السلام عليكم يا آل بيت محمد ورحمة الله وبركاته.
وقد عرفت أنها أم كلثوم بنت علي (ع)، فقالت: من أنت، أيها الرجل الذي لم يسلم علينا أحد غيرك، منذ قتل أخي وسيدي الحسين (ع)؟
فقلت: يا سيدتي أنا رجل من شهرزور، اسمي سهل، رأيت جدك محمداً المصطفى (ص)، قالت: يا سهل ألا ترى ما قد صنع بنا؟
أما والله لو عشنا في زمان لم ير محمد ما صنع بنا أهله بعض هذا، قتل والله أخي وسيدي الحسين، وسبينا كما تسبى العبيد والإماء، وحملنا على الأقتاب بغير وطأ ولا ستر كما ترى.
فقلت يا سيدتي يعز والله على جدك وأبيك وأمك وأخيك سبط نبي الهدى فقالت: يا سهل اشفع لنا عند صاحب المحمل أنْ يتقدم بالرؤوس، ليشتغل النظارة عنا بها، فقد خزينا من كثرة النظر إلينا
فقلت: حباً وكرامة، ثم تقدمت إليه وسألته بالله وبالغت معه، فانتهرني ولم يفعل، قال سهل: وكان معي رفيق نصراني يريد بيت المقدس وهو متقلد سيفاً تحت ثيابه، فكشف الله عن بصره فسمع رأس الحسين، وهو يقرأ القرآن ويقول: (ولا تحسبن الله غفلا عما يعمل الظالمون)، فقد أدركته السعادة، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم انتضى سيفه وشد به على القوم، وهو يبكي وجعل يضرب فيهم، فقتل منهم جماعة كثيرة ثم تكاثروا عليه فقتلوه؛.
فقالت أم كلثوم: ما هذه الصيحة؟
فحكيت لها الحكاية، فقالت: واعجباه النصارى يحتشمون لدين الإسلام وأمة محمد الذين يزعمون أنهم على دين محمد يقتلون أولاده، ويسبون حريمه ولكن العاقبة للمتقين، وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، ولقد عجبت لتلك الأطواد كيف لا تتزلزل؟
وكذلك النادي كيف لا ينخسف ويتحول؟
ولكن ارتفع موجود اللطف من بين أظهرهم وهم لا يعلمون ﴿وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون﴾.