أربعينيَّة الإمام الحسين {ع}.. سراجٌ لن ينطفئ على مرّ التاريخ

ريبورتاج 2023/08/28
...

 إعداد: بشير خزعل 


تروي كتب التاريخ أن أول زائر لقبر الحسين (عليه السلام) هو عبد الله بن الحر الجعفي لقرب موضعه منه، قصد الطف ووقف على الأجداث ونظر إلى مصارع القوم فاستعبر باكياً، ورثى الحسين بقصيدة معروفة.. قال فيها:. 

يقول أمير غادر حق غادر

الا كنت قاتلت الشهيد بن فاطمه

ونفسي على خذلانه واعتزاله

وبيعة هذا الناكث العهد لائمه

فيا ندمي أن لا أكون نصرته

لا كل نفس لا تسدد نادمه

وإني لأني لم أكن من حماته

لذو حسرة ما ان تفارق لازمه

سقى الله ارواح الذين تبادروالى نصره 

سقياً من الغيث دائمه ..


زيارة الأربعين

سميت هذه الزيارة بالأربعين؛ لأنها تمثل مرور أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في العاشر من المحرم سنة 61 للهجرة. كما أنَّ هذه الزيارة توافق يوم العشرين من صفر الخير وهو اليوم الذي ورد فيه الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري إلى المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين عليه السلام فكان أول من زاره من الناس، وفي هذا اليوم أيضاً وافق رجوع عيال الإمام الحسين عليه السلام من الشام إلى كربلاء مرة أخرى بقيادة الإمام زين العابدين عليه السلام فالتقى بجابر، من هنا بدأت زيارة أربعين الإمام الحسين عليه السلام كما أنه اليوم الذي رجعت فيه رؤوس أهل البيت عليهم السلام إلى أبدانهم في كربلاء.

ويروى أنَّ الصحابي جابر الأنصاري في يوم العشرين من صفر وقف على القبر الشريف لأبي عبد الله الحسين “ع” فأجهش بالبكاء وقال يا حسين ثلاثاً، ثم قال حبيب لا يجيب حبيبه وأنّى لك بالجواب وقد شطحت أوداجك على أنباجك، وفُرقَّ بين رأسك وبدنك، فأشهد أنك ابن خاتم النبيين وابن سيد المؤمنين وابن حليف التقوى وسليل الهدى وخامس أصحاب الكساء وابن سيد النقباء وابن فاطمة سيدة النساء، ومالك ما تكون كذلك وقد غذتك كف سيد المرسلين، وربيت في حجر المتقين، ورضعت من ثدي الإيمان وقطمت بالإسلام فطبت حياً وطبت ميتاً غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة بفراقك ولا شاكة في الخيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه، وأشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك المجتبى ابن زكريا.

ثم جال بصرة حول القبر وقال السلام عليكم أيتها الأرواح التي حلّت بفناء الحسين وأناخت برحله، وأشهد أنكم أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وجاهدتم الملحدين، وعبدتم الله حتى أتاكم اليقين، والذي بعث محمداً بالحق نبياً، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه، فقال له عطيَّة العوفي كيف؟ ولم نهبط وادياً ولم نعل جبلاً ولم نضرب بسيف والقوم قد فرق بين رؤوسهم وأبدانهم وأؤتمت أولادهم وأرملت الأزواج، فقال له جابر: (إني سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أحب قوماً كان معهم ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم، والذي بعث محمداً بالحق نبيا إن نيتي ونيَّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين عليه السلام وأصحابه .

يعدُّ يوم الأربعين من النواميس المتعارفة للاعتناء بالفقيد بعد أربعين يوماً، نفهم هذا المعنى عندما يتجلى في موضوع كالإمام الحسين (عليه السلام) الذي بكته السماء أربعين صباحاً بالدم، والأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسواد، والشمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، ولعل رواية الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنَّ السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً تطلع حمراء وتغرب حمراء تلميحُ إلى هذه الممارسة المألوفة بين الناس.


اختلاف الأحاديث

أكّدت أحاديث الأئمّة عليهم السّلام على أهميَّة زيارة الأربعين، حتى جعلها الإمام حسن بن عليّ العسكريّ عليه السّلام من سيماء المؤمن فقال: علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والتّختّم باليمين ، وتعفير الجبين.

وهذه الزّيارة رواها صفوان الجمّال عن الإمام الصّادق فقال: قال لي مولاي الصّادق تزور الحسين عند ارتفاع النّهار وتقول.. ثمّ تلا الزّيارة.

وإذا كان الباحثون قد اختلفوا، إثباتاً أو نفياً، حول رجوع السّبايا إلى كربلاء في العشرين من صفر، فإنّهم اتفقّوا جميعاً على ورود جابر بن عبد الله الأنصاريّ إلى كربلاء لزيارة أبي عبد الله الحسين عليه السّلام في ذلك التّاريخ بعد استشهاده بأربعين يوماً، بمرافقة أحد كبار التّابعين، الذي يسمّيه البعض عطيَّة والبعض الآخر عطاءً، ويحتمل أنّه عطيَّة بن حارث الكوفيّ الهمدانيّ، وهو أحد كبار التّابعين الذين سكنوا في مدينة الكوفة.

ومن المعروف أنّ جابراً، هذا الصّحابيّ المشهور، شهد جلّ المغازي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وصحبه في السّرّاء والضّراء، وروى عنه الأحاديث الصّحيحة، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) نفسه يزور جابراً، وقد سمع جابر أحاديث النّبيّ صلّى الله عليه وآله في حقّ الإمام الحسين عليه السلام ولمس مكانة الحَسنين عليهما السلام من قلب المصطفى، فلا عجب أن يتوجّه هذا الصّحابيّ الجليل، على كبر سنّه، إلى كربلاء عندما سمع بما حلّ بسبط النّبيّ صلوات الله عليهما.


ثبوت زيارة الاربعين

أيمكن أنْ تكون زيارة جابر لكربلاء في ذلك التّاريخ مصادفة، أم أنّ جابراً تعمّد زيارة الإمام الحسين في اليوم الأربعين بعد استشهاده لاعتبارات تتعلّق بزمن محدّد وعدد محدّد؟ هل تناهى إلى سمعه ما رواه الأئمّة عليهم السلام نقلاً عن رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ عمّا له علاقة بالاربعين.

يتكرّر ذكر العدد الأربعين في القرآن الكريم وفي الأحاديث الشّريفة، وكذلك في تفاسير كثيرة لآيات بيّنات عند المفسرّين على اختلاف مذاهبهم، فعلى سبيل المثال، ورد في القرآن الكريم:

﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ البقرة:51.

﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ المائدة: 26.

﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ الأعراف: 142.

﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ الأحقاف: 15.

أمّا الأحاديث الوارد فيها ذكر “الأربعين”، فتكاد لا تحصى، واخترنا منها بعض ما له علاقة بالبكاء على الميت:

* عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحاً.

* عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) أنّه قال: إنّ السّماء بكت على الحسين أربعين صباحاً.

 *عن الإمام الصّادق (عليه السلام) أنّه قال: إنّ السّماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالدّم، والأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسّواد، والشّمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، والملائكة بكت عليه أربعين صباحاً، وما اختضبت امرأة منّا ولا ادّهنت ولا اكتحلت ولا رجّلت حتّى أتانا رأس عبيد الله بن زياد وما زلنا في عبرة من بعده.


عناية إلهيَّة

عندما هَدم المتوكل القبر الشّريف، ظنّ وأعوانه أنهم بهذه الطّريقة سيحولون بين النّاس وبين زيارة الإمام الحسين عليه السّلام. صحيح أنّ رجال المتوكّل منعو محبي الإمام الحسين (ع) من الاقتراب من ذلك الموضع الشّريف، ونكّلوا بمن تحدّاهم، إلاّ أنّ العناية الإلهيَّة تدخّلت فلم يندرس المكان، وعُرف موضع دفن الإمام عليه السّلام، فقد ذكر ابن كثير (ت 774 هـ) في البداية والنّهاية، ج11/ 580: «أنّ الماء لـمّا أُجري على قبر الحسين لِيُمَحى أثره نضب الماء بعد أربعين يوماً، فجاء أعرابيّ من بني أسد، فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمّها حتى وقع على قبر الحسين، فبكى وقال: بأبي أنت وأمي، ما كان أطيبك وأطيب تربتك ثم أنشأ يقول:

أَرادوا لِيَخْفوا قَبْرَهُ عَنْ عَدُوِّهِ فَطيبُ تُرابِ القَبْرِ دَلَّ عَلى القَبْرِ

ويروي الأصفهانيّ (ت 356هـ) في مقاتل الطالبيّين، ضمن “ذكر أيّام المتوكّل ومن ظهر فيها فقتل أو حبس” فيقول (محمد بن الحسين الأشنانيّ)، قال: بَعُدَ عهدي بالزّيارة في تلك الأيّام خوفاً، ثمّ عملت على المخاطرة بنفسي فيها، وساعدني رجل من العطّارين على ذلك، فخرجنا زائرين نكمن النّهار ونسير اللّيل حتّى أتينا نواحي الغاضريَّة، وخرجنا منها نصف اللّيل فسرنا بين مسلحتين، وقد ناموا، حتّى أتينا القبر فخفي علينا، فجعلنا نشمّه ونتحرّى جهته حتّى أتيناه، وقد قلع الصّندوق الذي كان حواليه وأُحرق، وأُجري الماء عليه فانخسف موضع اللِّبن وصار كالخندق، فزرناه وأكببنا عليه، فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قط كشيء من الطّيب، فقلت للعطّار الذي كان معي: أيّ رائحة هذه؟ فقال: لا والله ما شممت مثلها كشيء من العطر، فودّعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدّة مواضع.

فلمّا قُتل المتوكّل اجتمعنا مع جماعة من الطّالبيين والشّيعة حتّى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه». والمشهور أنّ أسارى أهل البيت وصلوا كربلاء لزيارة قبر الحسين (ع) أثناء رجوعهم من الشام إلى المدينة في يوم الـ 20 من شهر صفر من ذلك العام، وقد وصل أيضاً في هذا اليوم جابر بن عبد الله الأنصاري صحابي النبي (ص) إلى كربلاء، وزار قبر الإمام الحسين.


فضل زيارة الأربعين

ورد التأكيد على استحباب زيارة الإمام الحسين بن علي عليه السَّلام في يوم الأربعين في جملة من الأحاديث الشريفة المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وذكرت لها فضلاً كثيراً.

عن الحسين بن ثوير عن أبي عبد الله (ع) أنه قال : «يا حسين من خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين بن علي (عليهما السلام) إنْ كان ماشياً كتب الله له بكل خطوة حسنة ومحا عنه سيئة، حتى إذا صار في الحائر كتبه الله من المفلحين المنجحين، حتى إذا قضى مناسكه كتبه الله من الفائزين، حتى إذا أراد الانصراف أتاه ملك فقال: إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقرؤك السلام ويقول لك: استأنف العمل فقد غفر لك ما مضى» .

وقال الإمام الصادق (ع) : «إنَّ الرجل ليخرج الى قبر الحسين (ع) فله إذا خرج من أاهله بأول خطوة مغفرة ذنوبه، ثم لم يزل يقدس بكل خطوة حتى يأتيه، فإذا أتاه ناجاه الله تعالى فقال: عبدي سلني اعطك، ادعني أجبك، اطلب مني اعطك، سلني حاجة أقضها لك،.. وقال أبو عبد الله (ع): وحق على الله ان يعطي ما بذل» .

وعن الإمام الرضا (ع)، قال: «إنَّ لكل إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنَّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقاً لما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة».

وقال الإمام الكاظم (ع) : «مَن زار الحسين (ع) عارفاً بحقه غفر الله له ما تقدّم مِن ذنبه وما تأخّر» .

وروى داود بن كثير عن أبي عبد الله : «ان فاطمة بنت محمد (ص) تحضر لزوار قبر ابنها الحسين (ع) فتستغفر لهم ذنوبهم».

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أتى الحسين عليه السلام عارفاً بحقه كتبه الله تعالى له في أعلى عليين.

عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله عليه السلام إنَّ أربعة آلاف ملك عند قبر الحسين عليه السلام شعث غبر يبكون إلى يوم القيامة بينهم ملك يقال له منصور فلا يزوره زائر إلا استقبلوه ولا يودعه مودع إلا شيعوه ولا يمرض إلا عادوه ولا يموت إلا صلوا على جنازته واستغفروا له بعد موته.

عن معاوية بن وهب قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام وهو في مصلاه فجلست حتى قضى صلاته فسمعته وهو يناجي ربه فيقول: يا من خصنا بالكرامة ووعدنا الشفاعة وحملنا الرسالة وجعلنا ورثة الأنبياء وختم بنا الأمم السالفة وخصنا بالوصية وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي وجعل أفئدة من الناس تهوى إلينا، اغفر لي ولإخواني وزوار قبر أبي عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم رغبة في برنا ورجاء لما عندك في صلتنا وسرورا أدخلوه على نبيك محمد صلى الله عليه وآله وإجابة منهم لأمرنا وغيظا أدخلوه على عدونا، أرادوا بذلك رضوانك فكافهم عنا بالرضوان وأكلأهم بالليل والنهار واخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف واصحبهم واكفهم شر كل جبار عنيد وكل ضعيف من خلقك وشديد، وشر شياطين الإنس والجن وأعطهم أفضل ما أملوا منك في غربتهم عن أوطانهم وما أثروا على أبنائهم وأبدانهم وأهاليهم وقراباتهم.

اللهم إنَّ أعداءنا أعابوا عليهم خروجهم فلم ينههم ذلك عن النهوض والشخوص إلينا خلافا عليهم، فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس وأرحم تلك الخدود التي تقلبت على قبر أبي عبد الله الحسين عليه السلام وارحم تلك العيون التي جرت دموعها رحمة لنا وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا، اللهم إني أستودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتى ترويهم من الحوض يوم العطش.