مشاهد من التحوّلات الاجتماعيَّة بعد واقعة كربلاء

ريبورتاج 2023/08/30
...

 جواد علي كسار

لم تهدأ الكوفة ولم تنم، فبعد مدة وجيزة من واقعة 10 محرم 61 هـ، وفي السنة نفسها بدأت تُخطط لحركة جديدة، ما لبثت أن اشتهرت بحركة التوابين، ففي العام الذي استشهد فيه الحسين رصد المؤرخون تداولات لعملٍ ما، أعقبها جمعٌ لآلة الحرب واستعداد للقتال، وجبيٌ للأموال، وأهمّ من ذلك خطوات تعبئة شعبيَّة لدعوة سريَّة راحت تنتشر بين الشيعة وغيرهم للطلب بدم الحسين والأخذ بثأره، استقطبت بحسب تعبير الطبري، القوم بعد القوم، والنفر بعد النفر. كيف انطلقت الفكرة؟ ومن كان وراءها؟ ما هي خطتها ومقدماتها؟ وكيف تحرّكت وإلى ماذا صار مآلها؟ جواب هذه الأسئلة هي مهمة هذا المقال الذي بين أيدينا.

التلاوم والندم

التوابون حركة اجتماعيَّة تكاد تكون خالية من الأهداف السياسيَّة، انطلقت من خلال مشاعر الندم التي انتابت من تأخّر عن نصرة الإمام الحسين “ع” في كربلاء، سواء ممن كتب إليه يطلب قدومه إلى مدينة الكوفة واعداً إيّاه بالولاء والنصرة، أو ممن لم يكتب، لكنْ أصابه الندم الشديد عن عدم نصرته.

والغريب في هذه الحالة أنها لم تمهل الكوفيين كثيراً، بل ما لبثت أنْ انطلقت بُعيد استشهاد الإمام الحسين “ع” مباشرة، إذ يؤكد المؤرخون ومنهم الطبري: 

«لما قُتل الحسين بن علي ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة فدخل الكوفة، تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندّم، ورأت أنها قد أخطأت خطأً كبيراً بدعائهم الحسين إلى النصرة وتركهم إجابته، ومقتله إلى جانبهم لم ينصروه.

ورأوا أنه لا يغسل عارهم والإثم عنهم في مقتله إلا بقتل من قتله، أو القتل فيه» (الطبري، طبعة الأعلمي، 1998م، ج 5، ص 66).


القيادة الخماسيَّة

أجمعت المصادر التي ذكرت حركة التوابين، أنَّ البداية انطلقت من اندفاع القاعدة الشعبيَّة صوب خمسة رجال من كبار الرموز الدينيَّة والاجتماعيَّة في الكوفة، وفزعها إلى هؤلاء القادة الكبار في خطّ الولاء، وهم سليمان بن صُرد الخزاعي وكانت له صحبة مع النبي صلى الله عليه وآله، والمسيّب بن نجبة الفزاري وكان من أصحاب الإمام أمير المؤمنين وخيارهم، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وعبد الله بن والٍ التيمي، ورفاعة بن شداد البجلي.

في البداية كان هؤلاء النفر الخمسة يجتمعون في منزل سليمان بن صرد، وقد كان يحضر معهم في المداولات وتحديد ما ينبغي فعله، أناسٌ من الشيعة وخيارهم ووجوههم، وكان البحث بينهم إذا خرج عن دائرة اللوم وتقريع الذات، يتجه إلى سؤالٍ واحدٍ لا يبرحه: ما العمل؟

يحفل التأريخ بالكثير مما وثقته لنا مصادره عن هذه المداولات، وما كان يدور في هذه الاجتماعات والمجالس. 

منها أنَّ هؤلاء عندما كانوا مجتمعين يوماً في منزل سليمان بن صُرد، أخذ المسيّب بن نجبة الفزاري وهو من مقربي الإمام أمير المؤمنين ومن أصحابه، زمام المبادرة، وقدّم شرحاً وافياً لحقيقة موقفهم، وقد تخلفوا عن نصرة الحسين “ع”، مفعماً بالتأصيل الشرعي والنصوص الدينيَّة، وبرؤية للحل.

بعد أنْ افتتح الفزاري كلامه بحمد الله والصلاة على نبيّه، اختار مدخلاً شرعياً لكنه عاطفي، وهو يقول: «أما بعد، فإنا قد ابتلينا بطول العمر، والتعرّض لأنواع الفتن، فنرغب إلى ربنا ألا يجعلنا ممن يقول له غداً: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ﴾ (فاطر: 37)؛ فإنَّ أمير المؤمنين قال: العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة، وليس فينا رجل إلا وقد بلغه».


الإقرار بالخطأ

بعد هذه المقدّمة الشرعيَّة والعاطفيَّة، انتقل ليحدّد بصراحة ولغة واقعيَّة، الخطأ الفادح الكبير الذي سقطوا فيه، وهو يخاطب المجتمعين بصراحة الإقرار بالخطأ، ويقول: «وقد كنا مغرمين بتزكية أنفسنا، وتقريظ شيعتنا [يقصد المدح والثناء] حتى بلا الله أخيارنا فوجدنا كاذبين في موطنين من مواطن ابن ابنة نبيّنا، وقد بلغتنا قبل ذلك كتبه، وقدِمت علينا رسله، وأعذر إلينا يسألنا نصره عوداً وبدءاً، وعلانيَّة وسراً، فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قُتل إلى جانبنا، لا نحن نصرناه بأيدينا، ولا جادلنا عنه بألسنتنا، ولا قوّيناه بأموالنا، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا، فما عذرنا إلى ربنا وعند لقاء نبينا صلى الله عليه وآله، وقد قُتل فينا ولده وحبيبه، وذريته 

ونسله؟!».

هي لغة أروع ما فيها مدخلها وصاحبها يغوص بالمداخل النفسيَّة للسقوط، وهي ما كان الإنسان ولم يزل يتحاشاه، في رحلة البحث عن المبرّرات هروباً من معاينة أعماق ذاته وما تنوء به تلك الأغوار العميقة من أسباب واقعيَّة، يدفنها تحت أسوار التسويغ والتبرير. 

هذا الرجل لم يفعل ذلك، بل تحدّث وكأنه متسلّحٌ بأدوات علم النفس الحديث وتراكيب علم الشخصيَّة الإنسانيَّة، عندما ذكر صراحة بأنه وأمثاله كانوا مغرمين بإعلاء شأن ذواتهم، ووضعها فوق الشبهات من دون اختبار، وقد غرّتهم في ذلك كله لغة المادحين من القواعد والأنصار، وهم يهبون رموزهم أكواماً لا تحصى من المديح والملق، وينحلونهم ما طاب لهم من الألقاب وصفات التعظيم والعبوديَّة الفرديَّة، حتى إذا ما حلّ الامتحان وجاءت المواقف، كانوا في طليعة الساقطين.


اختيار الزعيم

بعد هذه اللغة الصريحة الواضحة غير المواربة، ليس من المعقول أنْ يلجأ صاحبها إلى المخاتلة والتزييف، عندما يصل إلى الحلّ؛ وهذا ما حصل فعلاً عندما انعطف المسيّب بن نجبة الفزاري، ليضع ما يرتأيه من حلٍّ أمام الحاضرين من نخبة المجتمع يومئذ، وهو يقول: «لا والله، لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عليه، أو تُقتلوا في طلب ذلك، فعسى ربنا أنْ يرضى عنا عند ذلك، وما أنا بعد لقائه لعقوبته 

بآمِن».

هذه هي استراتيجيَّة الحركة التوابيَّة؛ توبة جذريَّة كاملة، وسعيٌ صادقٌ دؤوبٌ في مطاردة من قتل الإمام سيد الشهداء، والنيل منهم أو هو الموت دون ذلك.

لكنَّ هذه الحركة تحتاج إلى قائدٍ يكون على رأسها، يخطّط للعمل، ويوفّر الإمكانات الإنسانيَّة والماليَّة، ويوزّع المهام والعمل، ويحدّد التفاصيل، ويضع خرائط المعركة القادمة، من حيث العدّة والرجال، والمكان وساعة الصفر، بل ويدير التحالفات مع بقيَّة الاتجاهات الاجتماعيَّة والسياسيَّة في الكوفة.

أضف إلى ذلك أنَّ أجواء العنف والقمع الممنهج كانت لم تزل تخيم على أجواء الكوفة عام 61هـ، في ظلّ الحكم الأموي ومندوبه عبيد الله بن زياد أمير الكوفة، ما يعني أنَّ هذه الحركة ستكون عرضة لمخاطر الإجهاض مع أول بوادر عملها، وعند أول لحظات وصول خبرها إلى السلطة، تماماً كما حصل في ما سبقها من التحرّكات، ما يعني الحاجة الماسة إلى قيادة متأنية حكيمة، قادرة على ضبط الإيقاعات، والسيطرة على المشاعر من الانفلات، وعلى المواقف من التهوّر.

بإزاء هذه المعطيات مجتمعة، التفت المسيب الفزاري خاتمة كلامه، إلى نخبة الرجال المجتمعين في منزل سليمان بن صُرد، وقد اقترح عليهم ما يلي: «أيها القوم، ولّوا عليكم رجلاً منكم، فإنَّه لا بُدّ لكم من أميرٍ تفزعون إليه، وراية تحفون بها، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم».


كلام رفاعة

لم يكد ينتهي المسيّب من كلامه ومقترحه، حتى طلب الإذن بالكلام رفاعة بن شدّاد، فتكلم في حقلين مكملين لحديث سلفه المسيّب بن نجبة، أكدّ في الحقل الأول أهميَّة كلام المسيّب، وقد عقّب عليه، بالقول: «أما بعد، فإن الله قد هداك لأصوب القول، ودعوت إلى ارشد الأمور.. ودعوت إلى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموع منك، مستجاب لك، مقبول قولك».

أما في الحقل أو الجزء الثاني، فقد تعاطى رفاعة مع اقتراح اختيار قائد للحركة، بطريقة مذهلة بإيجابيتها، إذ يبدو أن بعض المجتمعين قد تداولوا المسألة وانتهوا إلى ضرورة وجود قيادة على رأس الحركة، ويبدو أن هذا البعض استقرّ أمرهم على انتخاب سليمان بن صُرد الخزاعي لهذا الموقع، لمجموعة من المؤهلات والخصال الشخصيَّة من بينها صحبته لرسول الله صلى الله عليه وآله. 

بيدَ أن الرائع في الأمر أن رفاعة لم يفرض هذا الميل إلى اختيار سليمان قائداً للحركة على المسيّب بن نجبة الفزاري، بل عرض عليه أن يكون هو ذلك القائد، وأنه مرضي عندهم، وإذا لم يرضَ ولم يجد في نفسه ميلاً للتصدّي، فمرشح القوم لزعامة الحركة عندئذ، هو سليمان بن صُرد.

يقول رفاعة تعبيراً عن هذا المقترح بشقّيه، ومخاطباً المسيّب الفزاري، بما يلي: «قلتَ: ولّوا أمركم رجلاً منكم تفزعون إليه، وتحفّون برايته! وذلك رأي قد رأينا مثل الذي رأيت، فإن تكن أنت ذلك الرجل تكن عندنا مرضياً، وفينا متنصّحاً، وفي جماعتنا محبّاً. 

وإن رأيت رأي أصحابنا ذلك، ولينا هذا الأمر شيخ الشيعة وصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وذا السابقة والقِدم سليمان بن صُرد المحمود في بأسه ودينه، والموثوق بحزمه».


سليمان بن صُرد قائداً

توالى بعد ذلك الرجال في الإشادة بخصائص سليمان بن صُرد وأهليته لقيادة الحركة، وارتضاء الحاضرين به، كما فعل ذلك عبد الله بن والٍ وعبد الله بن سعد، وهما من الخمسة الكبار، وغيرهم كثير، لينتهي الأمر إلى رفض المسيّب بن نجبة لاقتراح رفاعة بن شداد، في أنْ يكون هو القائد، بل ضمّ المسيّب رأيه إلى إجماع الحاضرين، في اختيار سليمان قائداً، وهو يقول نصاً: 

«أصبتم ووفقتم، وأنا أرى مثل الذي رأيتم، فولّوا أمركم سليمان بن صُرد» وهذا ما كان.

تبقى مسألة ترتبط بعدد الحاضرين، فبينما تؤكد بعض المصادر أنَّ من بين حضّار هذا الاجتماع في منزل سليمان، بالإضافة إلى الخمسة؛ أناساً من خيار الشيعة ووجوههم، نرى أنَّ مؤرخاً بارعاً من طراز أبي مخنف لوط بن يحيى الكوفي (ت: 158هـ) ذكر أنَّ عدد من حضر اجتماع بيت سليمان واختياره قائداً لحركة التوابين، هم أكثر من مئة رجلٍ من وجوه الكوفة وقيادات الشيعة في المدينة، إذ ينهي إلى حميد بن مسلم، قوله: «والله، إني لشاهد بهذا اليوم، يوم ولّوا سليمان بن صُرد، وإنا يومئذ لأكثر من مئة رجلٍ من فرسان الشيعة ووجوههم في داره» (الطبري، ج 5، ص 67).

بدأ ابن صُرد من فور اختياره قائداً بتنظيم عمل الحركة عبر الدعوة السريَّة المتكتّمة إلى صفوفها، كما نظم الجانب المالي، وبدأ يراسل ثقاة البصرة والمدائن لاستمدادهما بالرجال، والأهمّ من ذلك راح ينظم علاقة دعوته والحركة التوابيَّة عموماً، ببقيَّة الاتجاهات الناشطة في الكوفة، التي توزّعتها في غضون خمس سنوات من استشهاد الإمام الحسين، أربعة اتجاهات كبرى، هي الاتجاه الذي تمثله حركة التوابين، وخطّ المختار بن أبي عبيد الثقفي، وخطّ عبد الله بن الزبير، وأخيراً أنصار الخطّ الأموي الحاكم نفسه.

كيف فعل سليمان ذلك معه القيادات العليا في الحركة؟

وما هي الخطوط العريضة للحركة، قبل أنْ تنطلقَ إلى العلن عام 65هـ، ثمّ تتحرّك صوب مرقد الإمام سيد الشهداء “ع” في كربلاء، لتقوم بأكبر زيارة جماعيَّة مسلحة للإمام الحسين حتى ذلك الوقت، قبل أنْ تتجه إلى منطقة عين الوردة حيث دارت المعارك، وانتهت بأفول الحركة عسكرياً، تاركة مجالات الصراع السياسي والحزبي والاجتماعي، إلى حركة المختار الثقفي وما جرى فيها.

نترك جواب هذه الأسئلة إلى المقال القادم بإذن الله.