منازل العطراني.. سيرة حزن عراقي

منصة 2023/08/30
...

   كاظم غيلان  

هذه الرواية (منازل العطراني) لمؤلفها الصديق د. جمال العتابي واجهتني أكثر من صعوبة في الكتابة عنها، لأنني سمعتها كوقائع شفاهية منه على مدى ليال عميقة في ظلمتها ومحظوراتها، كانت ليالي التسعينيات تلف طوقا من الغامض في جهة المجهول من المستقبل الذي شهد ولادتها مطبوعة كرواية.

ولأنني لست بناقد متمرس، إلا أنني وجدت من المسؤولية الأخلاقية أن أدلي بشهادة تليق بها كعمل إبداعي عشت تفاصيله حد التماس والوجع لما فيه من وقائع حية انبثقت من بيت عراقي تعرض للقمع عبر سلسلة من النكبات التي توزعت بالتساوي بين سائر أفراده.

ابتداءً من الأب (محمد الخلف) وانتهاءً  بولده المغيب – الشهيد (عامر) ووفاة الأم المكلومة.

تظل الرواية من أقرب الفنون الإبداعية للتاريخ، تسجيلا يشترط الأمانة، وإن كان العديد من مؤرخي السياسة قد زوروا الوقائع، استجابة لشهوة حاكم كصدام حسين عبر دعوته لإعادة كتابة التاريخ، فنحن نقف اليوم لنتأمل ملامح المأساة العميقة التي اصطبغت بها جدران (منازل العطراني) ونسترق السمع لذلك الأنين الذي يصلنا ليوقظ فينا رغبة الكتابة التي تسجل فضحها بحبر الحقائق الصارخة لما فعلته فاشية العراق.

شخصية كـ (نوار) ولفرط ما يتمتع به من بطولة ممزوجة بشجاعة عالية أتذكر كيف كتبت عنه قصيدة ليلة سرد لي المؤلف مافعله، لكنها أي- القصيدة -اختفت مثلما اختفى بطل الرواية - محمد الخلف- السجين الهارب والمتظاهر ضد الحكومة بملابس السجن!

أي مغامرة مجنونة هذه؟

فضاء هذه الرواية مفتوح كما ريف - الغازية- التي اختفى عند تخومها الخلف، وإن أراد أن يضع له حدودا فستطل هي الأخرى على فضاء مفتوح آخر ليصل - الناصرية- التي تزوده بالصحف والمجلات حيث يطلع عليها سرا فضلا عن استراقه لسماع آخر الأخبار عبر راديو ذلك الزمان. 

فيخلد للنوم أسير كوابيس مفزعة حينا ومشرقة بشموس الخلاص والحرية والمساواة حينا آخر، ويمضي مع أسراره التي لايبوح بها إلا لولده (خالد)، ولا شيء في النهاية سوى خيبة مريرة وأحلام مذبوحة على عتبات التحالفات الهشة مع من لم يمتهنوا سوى الجرائم ولم يجيدوا سوى أساليب الغدر.

زمن الرواية يمتد من الأيام الأخيرة لحكومة عبد الكريم قاسم، التي أودعت محمد الخلف بأحد سجونها (سجن الكوت)، ليبدأ رحلة العذاب والاختفاء طوال سنوات حكم البعث الأولى شباط 1963والثانية 1968، التي انتهت بما آل اليه مصير ولده الفنان البارع والتحاق ولده الآخر بفصائل الانصار بكردستان!

ما الذي يجري في هكذا منازل؟ وما الذي يجري لها من عقوبات؟

الرواية أخذت طابعها التسجيلي بحكم ما تخللته من أحداث تاريخية مأساوية متصلة بعضها ببعضها. 

سقوط أول جمهورية عبر حمامات من الدماء، انتكاسة أعرق حزب وطني وتصفية قادته عبر طرق وحشية، انتكاسة اول تجربة للكفاح المسلح بأهوار الجنوب العراقي، تصفيات جسدية تحت غطاء تحالف فاشل غير مدروس.   

ما يؤخذ على الأدب العراقي أن أغفل العديد من وقائع تاريخه الذي تسببت فاشية البعث بجانبه المأساوي ولا أدري ان كان استعلاءا أم حياءا؟ 

إلا أن هذه الرواية أعطت بفنيتها العالية - مع أن مؤلفها ليس بالروائي- ما يضيف لأدبنا- تاريخيا - شهادة مشرفة عبر: إدانة السلطة بوصفها قامعة للانسان وسائر جماليات التكوين العراقي - بيئة وشعبا - والكشف عن قدرات الإنسان العراقي مدينيا ام ريفيا، متعلما مثقفا ام أميا يعيش بفطرته على مقاومة أشرس نظام فاشي.  

أعود لما قلت بداية: إنها شهادة ثقافية تستحقها رواية سجلت وقائع احزاننا العراقية وللنقاد رأي لربما يتفق أو يختلف مع ماذكرت.