ميثم الخرجي
الجميل في الفلسفة أنّها تحرك الساكن وتنزع نحو إثارة الراكد لتؤهل محتوىً يليق بالإنسان وإشكالاته الكونية، وهذا الدرس باعث مهم في إماطة اللثام عن كثير من الأسئلة المغلقة المواكبة لحياة الفرد والسائرة معه، وقد حَسمت المعرفة الكثير منها حيال تفكيك محتواها وإضاءة مضامينها، بقي أن نتساءل هل ثمة تجديد في هذه المنظومة؟، وهل أن غاية إدراك الأسئلة والإجابة عليها تخص العالم بأسره أم أنها محددة بمعايير، وفقاً لهاجس المجتمع ومدى تحرره من التبعية والاغلال؟، هل يسهم التنوع الأثني والعرقي وما يكنه من التباسات عقائدية في ماهية الاستجابة لطرح عقلاني له وقعه وغرضه، وهل تشكل الثورة التكنولوجية التي تناوشت الضرورات الحياتية واختصرت أوانها، وما يتفرع منها من مسارات علمية جادة في هذه المحاكمة إن أجزنا لأنفسنا أن نطلق عليها هذه التسمية، وهل ما زالت الفلسفة متوقفة عند اجترار السياقات النائمة في الأثر لتخرج لنا بمعطيات متعافية، وإن أعطت لنا معادلاً موضوعياً وفقاً لمخرجاتها الجدلية ما الجديد الذي يطالعنا منها، ولو فرضنا إنها فتحت كوكبة من الاستفهامات على مصراعيها لماذا هذه الديمومة، التي تتمتع بها في حال لو آمنا بأن المشكلة التي يعاني منها الإنسان واحدة كمفهوم ورؤية وطريقة عيش، وهل أنها تصاب بحالة من السكون أو الامّحاء عند اكمال مشوارها المعني في ترويض الأسئلة إلى منطقتها، هل ما زال حلم افلاطون قائماً ببناء جمهوريته الفاضلة لإعطائنا دستوراً إنسانياً لا يعاني من النكوص؟, وهل هذا هو حلم الفلاسفة، منذ الإغريق إلى المعاصرين منهم؟.
هل أن المؤن المعرفية التي وصلت لنا من نتاج تنظيري كافية لجودة العالم إزاء هذا التصحر الفكري الذي اغتمت به الرؤى، وهنا أشير إلى دور الإنسان في تسليع العلل والاستقرار عندها واللجوء إلى مفاهيم لا تحتكم إلى معيار علمي في إدارة شأنه وتغييب دور العقل في ما يخص يومياته أو ما يتعرض من عقبات تشترك في إقصائه عن واقعه، ملتجأ إلى تبريرات تصيبه
بالخدر.
أولاً علينا أن نفصّل مسألة غاية في الأهمية، ما هي مشكلة الإنسان نفسه، وما الدافع الذي يجعله أن يصرّح عن أزماته إن كانت مع السلطة أو المجتمع أو تقدير الوجود نفسه، ولو أجزنا القول بأن جدلية الوجود تخص جميع الإشكاليات التي تعرّض لها، أين الدور الحقيقي للفلسفة، لتكون المؤهل الحق للتعبير عن الحالة التي التزمته، وما هي المنفعة الممكنة التي تقدمها له.
بطبيعة الحال، أجد أن الحيرة التي رافقت الفرد جاءت من خلال التنشئة، التي تربى عليها والسنن والقوانين التي كبّلته، ليكون مسوّراً بحفنة من المحاذير والعقبات التي تقوّض غايته في كيفية النزوع نحو السؤال بما يحمله هذا السؤال من استفهامات غيبية أو سخط على واقعه المرير، أثر السلطة بجميع أنساقها الجدلية بان واضحاً في الاستفزاز والتحريض أيضاً، ليبقى الدور الذي يقرّه الإنسان حيال هذه الظروف وما يملكه من رؤية تنكل بالسائد الذي سجنه في مدار الفرض والالتزام وبدد همته حيال
التغير.
من الملاحظ أن المناخ الجدلي الذي ينمو في بيئة معينة له قاعه الخصب وأرضيته الفاحصة، وهنا يجب علينا أن ننظر في مدى استقلالية الإنسان وماهية استيعابه للحالة العامة، التي تقمصت واقعة لمعاينة الكم النوعي الذي أتاح لهذا التغيير، لذا فإن مساحة الحراك المعرفي ناجمة عن ذهنية شاطرة ذات مقدرة على التحاور والتأمل ذهنية باستطاعتها أن تسأل وتطالب.
فلو تبعنا أثر الفلاسفة الأغريق وما انشد من حولهم لوجدنا أن طبيعة الأرض المرنة حيال الأخذ بالرؤى، التي طرحت مع حيازة الكثير من الأحداث التي تعرضت لها من قبل الكنيسة والمجتمع، وما لحقت بهم من إبادة، لكني لا أنظر إلى العتبة الأولى وما يشوبها من انكسارات تسهم بشكل أو بآخر بالخروج على السائد، الذي تربى عليه المجتمع، وإن لاحه الإقصاء، فهذا شيء طبيعي حيال أي هيكلية جديدة طاردة للقديم، غير أني أتوقف عند المستوى الثاني والذي أعني به هي الأنساق المتوارثة التى ركلها المجتمع لينهض بحلة كاشفة وناطقة بالوعي وذلك بتفعيل دور الإنسان ونبذ العنف والتعايش السلمي، الذي أعطى وجهاً ناصعاً للحضارة بمساراتها الثقافية والعمرانية، ولو امتد بنا الشرح وتفحصنا سبل التطور التكنولوجي لوجدنا أن الفلسفة لها دورٌ رائدٌ بما تفعله الماكنة وما تنطقه لغة الذكاء الاصطناعي وهذه كلها نتائج ملموسة ومؤكدة على احتضان المعرفة وتعايشها التي تقبلتها المجتمعات بالجدل المستقر وفككت انساقها .
بقي لنا أن نعطي دلائل وبراهين جادة على المجتمعات الصلدة والمغلقة والمترددة إزاء أي وعي سافر لمحتواها القيمي والأخلاقي والعلمي أيضاً، المجتمعات السائرة نحو الماضي والمحاطة بسياقات رجعية راديكالية متصحرة، كيف لها أن تنتج منهجاً تقويمياً رائياً ينزع نحو الخلاص في حال لو التزم الفرد دور التبعية وراح يسلّم مصيرة للآخر ويطمئن نفسه بالبقاء عند حفنة من الأغلال الناجمة عن إلغاء دور العقل ليقاد إلى حتفه وهو على السطح.
تعمية المجتمعات هو موتها وإن كانت تتمتع بدورها الحركي، الفعل الإجرائي الذي تقدمه لنا الفلسفة هو مصادرة جميع العلامات التي تؤدي إلى تعطيل ماهية الإنسان وقدرته على التفكير إزاء نفسه أولاً وواقعه ثانياً، بالتالي أن مشترطات المعرفة ونجاحها، بل ونضوج مناهجها تخضع لمدى استجابة الواقع الراهن لها فمن المؤمل أن يكون مريدوها ومبشروها لهم مساحة كافية لمناهظة المسلًمات والشروع بعزيمة ثائرة بفتح أكرّات النوافذ المستبعدة والتمعن بمستقبلهم دون اتكاء أو عون من أحد.