العمالة الصينيَّة.. تحدٍّ جديد
كرستيان شيفرد وفيك تشيانغ وليليان يانغ وثيودورا يو
ترجمة: أنيس الصفار
كانت الشمس تطل لتوها من فوق سطوح المنازل، لكن المئات من العمال الباحثين عن عمل كانوا قد بدأوا يتململون برماً في صباح يوم بلغت درجة الحرارة فيه 27 درجة مئوية وتواصل الصعود. ثم إن هنالك ايضاً السخونة الاقتصادية الناجمة عن التباطؤ الذي أصاب الصين في مرحلة ما بعد كورونا. فعندما أقبلت سيارة نقل صغيرة وتهيأت للوقوف بمحاذاة الرصيف في الشارع التجاري بمدينة ماجوكياو، الواقعة على أطراف العاصمة بكين، هبّ اليها عشرات الاشخاص وتعالت أصواتهم يسألون السائق عن طبيعة العمل الذي يطلبه، متزاحمين متدافعين أملا في الحصول على أجر يوم مع ملاذ يقيهم شمس الصيف. عملية انتقاء العمال المناسبين بدت أقرب إلى السجال منها إلى مقابلة عمل.
فحشد العمال والسائق ينهمكون في رد وبدل ساخنين لدقيقة من الزمن قبل ان تصعد حفنة من الشبان الاصغر سناً إلى السيارة، ومن بعد ذلك يعترض السائق الضخم طريق الباقين الذين رفض اصطحابهم، مانعاً إياهم من الانتقال إلى السيارة ثم يطبق الباب ويسرع مبتعداً.
هذا المشهد المشحون بالتوتر، الذي يبقى يتكرر مع كل صباح عند نقطة التقاطع هذه حيث يتجمع العمال اليوميون آملين في الحصول على نوبة عمل، يُعدّ شاهدا واضحا على قتامة آفاق العمل في ثاني اكبر اقتصادات العالم.
بعد ثلاث سنوات من الاغلاق
يعاني اقتصاد الصين مصاعب تفوق ما كان متوقعاً. وتسعى البلاد إلى النهوض بعد ثلاث سنوات من الاغلاق الصفري الذي فرضه وباء كورونا، إذ تظهر أحدث البيانات أن النمو لا يزال بطيئاً.
سوق العقارات ومعه سوق الانشاءات، المسؤولان معاً عن نحو ربع النمو الاقتصادي، مستمران في التدهور. كما إن حركة الاستهلاك لا تزال فاترة، نظراً لما تبديه الأسر من احتراز إزاء القيام بمشتريات كبيرة، في حين أن الحكومات المحلية التي تعاني المديونية تماطل في سداد ديونها.
هذه التحديات الاقتصادية مجتمعة أسفرت عن قفزة كبيرة حادة في معدلات البطالة، لا سيما بين الشباب، حيث بلغ معدل البطالة من خلال بيانات الشهر الماضي بين أوساط الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و 24 عاماً مستوى قياسياً هو 21 بالمئة، مع أن أحد الاقتصاديين يعتقد بأن الرقم الحقيقي قد يكون أقرب إلى النصف.
مشاعر القلق الواسعة بشأن الحصول على عمل وتحقيق دخل للمعيشة، سواء بالنسبة لعامل يدوي يبحث عن عمل مؤقت في قطاع البناء في مدينة بعيدة عن سكنه او بالنسبة لخريج جامعي تخرج حديثاً ويريد العمل في احدى شركات الانترنت، تشغل بال الحزب الشيوعي الصيني وزعيمه "شي جنبنغ".
دأبت القيادة الصينية منذ وقت طويل على تبرير نهجها ببذل الوعود بمستقبل اقتصادي افضل. بل أنّ "شي جنبنغ" ذهب إلى أبعد من ذلك فأطلق تعهدات طموحة بمعالجة الغبن وعدم المساواة وتحقيق الرفاه المشترك في مختلف فئات المجتمع الصيني. لكن الماكنات القديمة المجهدة التي انتجت للصين ارتقاءً اقتصادياً سريعاً ونهضة انفجارية واسعة النطاق عبر اعمال البناء وانشاء المدن، أخذت تتعثر في عملها، وكان معنى ذلك تقلص الوظائف في جميع انحاء البلد.
يقول "شانغ جون" رئيس قسم الاقتصاد في جامعة فودان بشانغهاي: "حين لا يكون رجال الأعمال مطمئنين إلى الافاق الاقتصادية لا تعود بالشركات رغبة في توسيع حجم عمالتها، وهذا بدوره سيعني خفض الانفاق. فبسبب الصدمة التي أحدثها الوباء لم ترتفع دخول كثير من الناس، إن لم نقل انها انخفضت، كما أصبحت الكثير من الأسر اكثر حذراً في الانفاق."
الاحصائيات الاقتصادية الضعيفة يمكن تحسس نبضها في شوارع ماجوكياو، التي تعد من الأماكن القليلة المتبقية في العاصمة الصينية حيث يمكن للعمال من خارج المدينة أن يأملوا في الحصول على عمل ليوم واحد.
بيد أن أحلامهم في الحصول على أجور طيبة في المدينة الكبيرة تخبو. فتدني الاجور وقلة الوظائف تكاد تكون شكوى عامة في كل مكان، لذا يفكر كثير منهم بالمغادرة.
العمال المهاجرون داخلياً
"شونغ هوي"، وعمره 47 عاماً، كان أحد الذين تخلفوا بعد مشهد التسابق في الصباح، كان رأسه الحليق يزداد احمراراً كلما إمتدّ به الوقت وهو يذرع الأرض في مكانه لعل الانتظار يعود عليه بشيء. هو في الأصل من منغوليا وكان يأتي إلى بكين منذ سنوات، لكنه أخذ يواجه صعوبة متزايدة في الحصول على العمل، ويقول انه في أغلب الاحيان يقنع بأجر زهيد لا يداني ما كان يحصل عليه قبل خمس سنوات.
عما قريب سينتهي أمد ايجار غرفته الصغيرة عديمة النوافذ، ولكنه لم يقرر بعد إن كان سيبقى أم سيجرب حظه في مدينة أخرى. لا يزال شونغ يتوقع الحصول على أعمال يومية بدلاً من محاولة العثور على عمل بعقد طويل الأجل لأن ذلك يتطلب، عادة، المرور بالوسطاء وهؤلاء يخدعونك في كثير من الاحيان أو يقتطعون لأنفسهم حصة دسمة!.
ومع ذلك، فإنه على الاغلب لم يعد أمامه خيار آخر. فيقول: "حين نتحدث فيما بيننا نقول أن العمل اليومي اكثر حرية، ولكن الواقع هو أننا لا نملك خياراً."
ينتمي شونغ إلى الاجيال الأولى من العمال الذين هاجروا داخلياً، وهم اولئك الذين تركوا منازلهم في مناطق مختلفة من الصين خلال عقد التسعينات ومطلع القرن الحادي والعشرين للمشاركة في تشييد العمارات العملاقة التي أصبحت الآن سمة المدن مثل بكين وشانغهاي وهانغشو.
ومن جهة أخرى، فإن أجور العمال اليدويين، على الرغم من الارتفاع الذي شهدته، بقيت متخلفة عن مواكبة التضخم، لذا يواجه هؤلاء العمال مستقبلاً قاتماً، وفقاً لما جاء به بحث انتشر مؤخراً انتشار النار في الهشيم قبل أن تفرض عليه الرقابة بسرعة.
يتوقع كثير من العمال المهاجرين الاستمرار في العمل إلى أن يصلوا إلى مرحلة لا يعودون فيها قادرين على ذلك، والسبب هو أنهم لا يملكون مدخرات او معاشات تقاعدية او دعم اجتماعي تشجعهم على التوقف. هذا هو ما توصلت اليه الباحثة الاجتماعية "كيو فنشيان" من جامعة "انهوي نورمال"، بعد اجراء عمليات مسح واسعة.
في العام الماضي كان في الصين نحو 86 مليون عامل مهاجر تتعدى أعمارهم 50 عاماً، وهناك سياسة جديدة تمنع من تجاوزت أعمارهم 55 عاماً من العمل في مواقع البناء.
تقول كيو مرددة أسئلة تكررت عليها خلال عمليات المسح التي قامت بها إن العمال كثيراً ما يسألون أنفسهم: إلى اين سأذهب عندما أشيخ؟ وعلى من سأتكئ إذا مرضت؟ وما الذي يخبئه لي المستقبل حين لا أعود قادراً على العمل؟
الجيل الجديد .. استسلام ويأس
لكن المعاناة لا تقتصر على طبقة كبار السن والعمال اليدويين فقط، فعند الطرف الآخر من سوق العمل هناك خريجو الصين الجدد. خلال الصيف الحالي ترك نحو 12 مليون طالب كلياتهم، وخرجوا للبحث عن وظائف، ويعد هذا الرقم قياسيا. فضلا عن ذلك، فإنه سرعان ما اكتشف هؤلاء الطلبة أن المهمة شاقة وعسيرة بوجود كل هذا العدد الكبير من المتقدمين للحصول على وظائف غدت أقل من المعتاد.
بعض الخريجين يحالفهم الحظ فينالون وظائف في مواقع تنافسية عالية في أفضل الأماكن الصناعية او وظائف الخدمة المدنية المؤمنة نسبياً، في حين يضطر الاخرون للقبول بما يحصلون عليه اياً كان.
بيد أن شريحة كاملة من هؤلاء صارت تختار البقاء خارج هذا السباق المضني ولسان حالهم يقول: "ما الذي يدعوني للعمل في وظيفة "996" (أي من التاسعة صباحاً إلى التاسعة مساء ستة أيام في الاسبوع) مقابل أجر زهيد في حين يمكنني الانتقال للعيش مع والديّ والعمل من هناك لكسب رزقي من خلال انتاج مقاطع فيديو قصيرة؟
يقول شانغ، الاقتصادي من جامعة فودان، متحدثاً عن هذا التوجه المتمثل في الخروج من السباق: "انهم ينصرفون إلى منازلهم تاركين سوق العمل، واعتقد أن علينا أن نشعر بالقلق من أن تصبح هذه الظاهرة ثابتة غير قابلة للتراجع عنها في المستقبل." هنالك على الانترنت اليوم معجم كامل من المصطلحات التي تستخدم للتعبير عن خيبة الأمل. فاولئك الذين تخطت أعمارهم العشرين بسنوات لا يكفون عن الحديث كيف إن العمل الجاد ليس سوى "لف ودوران" بلا طائل مثل الركض في عجلة الهامستر. ولذلك فإنهم يقولون ان المرء يكفيه أن "يستلقي على ظهره" ولا يبذل من الجهد إلا القليل الكافي لمواصلة الحياة.
هذه الشريحة لا تدخل ضمن الاحصائيات الرسمية لأن بيانات البطالة بين الشباب لا تتضمن سوى المنخرطين جدياً في البحث عن عمل. يقدر "شانغ داندان"، وهو اقتصادي من جامعة بكين، بأن الرقم الحقيقي يمكن أن يبلغ 47 بالمئة تقريبا.
بعض الشباب العاطلين باتوا يصفون أنفسهم متهكمين بأنهم عادوا "أطفالاً بدوام كامل" في منازل عوائلهم. هؤلاء، شأنهم شأن العمال بأجر يومي امثال شونغ، يشعرون بالتشاؤم كلما تأملوا فرصهم المستقبلية.
"ليو كيانيي" خريجة تحمل شهادة في التصاميم الداخلية وهي إحدى الذين تتعدى أعمارهم 20 عاماً ببضع سنوات واختاروا التقهقر قليلاً إلى زمن الطفولة. تقيم ليو مع والديها في مدينة "شانغشا" وسط الصين منذ شهر أيار بعد أن تخلت عن عملها كمصممة غرافيك بسبب انخفاض مستوى الاجر الذي كان يدفع لها.
كانت تخطط للبحث عن وظيفة جديدة، ولكنها عدلت عن ذلك وبدأت تتدرب لتصبح معلمة للدراسة الابتدائية. خلافاً لما كان عليه الحال في جيل الأجداد، حين كان الجميع فقراء يكدحون من أجل حياة افضل، هناك الآن هوة هائلة بين الاغنياء والفقراء، كما تقول ليو. اما وعود الحكومة التي تصور للجميع أن أمامهم فرصة للعيش "بمستوى مقبول من الرفاهية" فهي سطحية على حد وصفها نظراً لشدة المنافسة على عدد محدود من الوظائف المتاحة.
تقول ليو: "حتى لو خرجت للبحث عن وظيفة الآن فإن رئيسي في العمل سيدفع لي أدنى حد من الاجور ويطالبني في مقابل ذلك بأقصى حدود العمل." لذا فإن من الاسهل عليها "ترك الامور تتعفن"، مستخدمة احدى العبارات الجديدة الاخذة بالانتشار والتي تعني التسليم بظروف لم يعد من الممكن تداركها.
عن صحيفة {واشنطن بوست} الأميركية