الطبيعة وصورة الوطن الأجمل

منصة 2023/08/31
...

  د.جواد الزيدي

 ضمن برنامجها السنوي المتواصل أقامت جمعية التشكيليين العراقيين معرضاً مخصصاً للطبيعة العراقية بمشاركة أكثر من (70) فناناً، وبواقع لوحة واحدة لكل منهم، استطاعت اللجنة الفنية الخاصة بفرز الأعمال اصطفاء الجميل والمعبر عن جوهر الطبيعة العراقية، انطلاقاً من تجسيد تلك الطبيعة واعتماد المُفارقة في اصطفاء المشهد المُصور، فضلاً عن الاضافات التي تثريها تجربة الفنان نفسه في الرسم، من خلال المعالجات اللونية والتقنية المُعتمدة في كل تجربة التي ستضيف بالتأكيد مساحةً جمالية إلى المنجز الابداعي. ولأنه معرض سنوي فإن الإسهام فيه كبير يحتضن رسومات الطبيعة المُعبرة عن خارطة الوطن وتضاريسه. ولأن الفنان ابن بيئته فهو المُجسد الحقيقي لها. ومن هنا تتنوع المساهمات والأشكال والصياغات، إذ نرى السهل والصحراء والأهوار والمستنقعات والجبال والتجمعات الاجتماعية، وبعض المهن وغيرها من تضاريس الوطن على امتداده من خلال اسهام الفنان المشارك في تبني جزء من هذه الخارطة.
 إن معرض الطبيعة يحتفظ بغاياته المُدركة، جمالية كانت أو دلالية تفوق رسم المنظر بوصفه شاهدة على بقعة من هذا الوطن تعكس جماليته، بل إن المعنى يتجاوز ذلك في ضوء الاحتفاء بالتنوع الجغرافي وتكريس مفهوم المحلية عبر تصوير الملامح والمناخ العام، وهو اشتراط أساسي في تجسيد الواقعية العراقية في المشهد المُصور، ورفض المشاهد المنقولة من بيئات ومناخات عالمية أخرى، فضلاً عن التذكير بأن الجمال هو وجود حقيقي لتلك الجغرافية التي تعاني الاهمال والتجريف والغاء الهوية في مناطق كبيرة تم تغريبها، وتحولت إلى مبانٍ سكنية أو تجارية بعد
احراق رؤوس النخيل وقطعها بعد ذلك وتجفيف، جذورها، تلك التي كانت مزهوة في الصورة.
 ولأن العراق بلد النخيل سابقاً وحاضراً، على الرغم من محاولات الاطاحة بهذا الرمز السومري (النخلة)، فقد جاء الجزء الأكبر من الأعمال المشاركة صوراً، لتمثلات مناطق ريفية وشعبية تحتوي أسراب النخيل والسواقي الملتوية وأجواء الريف التي ألهمت الشعراء ذات يوم للتغني بها. النخيل ليس وحده، بل بوصفه علامة حياة دالة على المشهد الحياتي للعراقيين أينما كانوا، إذ نجد صورة الرجل والمرأة أو تكوينات العائلة وهي تشيع الفرح تحت هذه الأسراب التي تُمثل النوع العراقي في الشكل والارتفاع والسعف والثمار. وهذا ما تنشده المقاصد النبيلة التي تقف وراء اقامة المعرض النوعي. وقد تمتد المخيلة الابداعية إلى استجلاب الصورة المخزونة في الذاكرة لنقلها على قماش اللوحة، لتجري عليها تعديلاتها عندما تنتقل إلى السطح التصويري، فتظهر صور الأهوار ومشاركة المرأة في صناعة الحياة الشعبية العراقية ومحاكاة معناها الخفي، بما تبعثه الألوان الحقيقية المُعبرة عن تلك الطبيعة (لون الماء، بيوت القصب، الزوارق، أزياء النساء)، كلها دلالات استطاع الفنان أن يبثها ويبوح بها داخل لوحته، وتؤكد انتمائه إلى البيئة العراقية بمختلف عناوينها، كما في لوحات ( حسن فالح، سهيلة الهنداوي، كميلة حسين، حسين نجار، حيدر صباح، زياد جسام) وآخرين.
 وتجاوز البعض ذلك إلى المناطق الوعرة والطرق النيسمية المتعرجة ليرسم الخطوات التي مرت من هناك، وصولاً إلى صورة الغيوم التي تتحرك ببطء خلف سلسلة الجبال الذي تحتضن الوادي الأخضر بجميع انفعالات الفنان الوجدانية، كما في لوحات (أياد الشيباني، باسم الحاج، أسامة حسن، صباح حمد، صباح محيي الدين، شاميران صخيرو) ومقاربات أخرى لمثل هذا التوجه. فيما نالت الأماكن التراثية وملامح المدن المندرسة نصيباً من هذا التسجيل التصويري، فظهرت (النواعير، الزوارق الراسية على ضفاف الأنهر والمستنقعات، بيوت الطين المقوضة) في لوحات (حسن ابراهيم، محمد الزبيدي، مسلم سلمان، مقدام الزبيدي، منذر عيثاوي، مهند ناطق، فلاح عبدالكريم) وآخرين. وقد توشحت بعض اللوحات بضجيج القرى القصية وصباحاتها الندية ممثلة في الصور التي دونت (ألوان الفجر، حركة الرعاة، ودخان التنانير)، لتكون شاهدة أخرى على فعالية الحياة اليومية، كما في أعمال (عاصم الأمير، علي ناظم، عمر المطلبي، حكمت السراي، حيدر صبار، ناظم حامد، ورود جعفر، موفق عبدالحميد، محمد يحيى، زاهد الساعدي)، وتوسطت بعض التجارب بين هذا وذاك، إلا أنها تعلن انتماءها بقوة إلى ذلك الواقع المشحون بالجمال وتمثله. وغير هذا كله فقد تقصد المعرض تصوير التنوع الاجتماعي العراقي وتنوعات الطقس والتضاريس، والمحبة أيضاً، ليعكس المسكوت عنه في الطبيعة العراقية وماوراءها، ويصبح الجمال بديلاً عن مشاهد العنف الموجه والقسوة، التي تحكم حركة الشارع والطبقات الاجتماعية التي أرادت منها الأنظمة وتوجهاتها وقوداً لمعارك النفوذ السياسي.