ماذا حدث سنة 65 هجريَّة؟
جواد علي كسار
بعد أنْ شاعَ خبرُ وفاة الحاكم الأعلى للدولة الأمويَّة يزيد بن معاوية، وانتشر في الأمصار سنة 65 هـ، حلّ في الكوفة لونٌ من التحدّي ونوايا في الخروج عن قبضة السلطة الأمويَّة، كما هو عهد هذه الحاضرة العلويَّة في غالب الأوقات. وقد كانت الكوفة يومذاك تشهد وجود مجموعات متباينة الأوزان من القوى السياسيَّة، يأتي التوابون في طليعتهم،
وإلى جوارهم جماعة المختار الثقفي، وجماعة عبد الله بن الزبير، أضف إلى ذلك خطّ الذوات الوجاهيَّة والأرستقراطيَّة الكوفيَّة، ذات الميول إلى السلطة الأمويَّة للحفاظ على مراكزها
ومكاسبها.
انقلاب القصر
في لحظة وصول خبر وفاة يزيد إلى الكوفيين، كان عبيد الله بن زياد في البصرة، ولم يشتدّ بعد ساعد خطّ المختار أو ابن الزبير، ما كان يعني أنَّ الفرصة مؤاتية للتوابين لتسلم السلطة، لو كانت لهم رغبة بذلك، أو كانت السلطة جزءاً من مشروعهم السياسي، وإنْ كان ذلك بعيداً بحسب مبادئ الحركة وأهدافها.
مع ذلك حاول البعض إقناع زعيم الحركة سليمان بن صُرد، عندما اتجه إليه جماعة من أصحابه، بمقترح تنفيذ انقلاب قصر سهل المؤونة، وتطوير أهداف الحركة من مجرّد الثأر من قتلة الحسين وتصفيتهم، إلى الإعلان عن الدعوة إلى قيادة أهل البيت؛ حين قال له هذا البعض: «قد مات هذا الطاغية، والأمر الآن ضعيف، فإذا شئت وثبنا على عمرو بن حريث [وكيل ابن زياد] فأخرجناه من القصر، ثمّ أظهرنا الطلب بدم الحسين، وتتبعنا قَتَلته، ودعونا الناس إلى أهل هذا البيت المستأثر عليهم، المدفوعين عن حقهم، فقالوا في ذلك
وأكثروا».
رغم إلحاح هذه الفئة على ابن صُرد إلا أنه رفض التجاوب معهم، ذكر لهم بأنَّ خطوة مثل هذه تعدّ ليس خروجاً عن أهداف الحركة وحسب، بل هي أيضاً خطأ استراتيجي لأنَّ مُباشرة تصفية قتلة الحسين - وهم من أشراف الكوفيين وفرسانهم حسب تعبيره - قد تجرّ إلى ما يُشبه الحرب الأهليَّة. أعاد سليمان تنظيم الموقف أمام هؤلاء القوم، وهو يذكّرهم مجدّداً بأنَّ قتل الإمام الحسين هو قرارٌ سياسيٌّ اتخذته الدولة الأمويَّة؛ واتجهت مسؤوليَّة التنفيذ إلى واليها في العراق عبيد الله بن زياد، ولم يكن من الكوفيين إلا مسؤوليَّة مباشرة القتل، لذا فالحركة مصرّة على أنْ تبدأ بعقاب الدولة الأمويَّة أولاً، ثمّ الأمير عبيد الله بن زياد ثانياً، ثمّ من باشر القتل من الكوفيين ثالثاً، ولا ترى فائدة من الخروج عن هذه الخطّة.
أجل، اقترح سليمان على أنصاره أنْ يجهروا بالحركة ويغادروا مرحلة السريَّة والكتمان، وأنْ يحوّلوا الاشتراك في الحركة إلى دعوة عامَّة تشمل الجميع من الشيعة وغيرهم، مستفيدة من أجواء الارتخاء التي سادت الكوفة، ومستثمرة الفرصة، وهو قوله: «لكن بُثّوا دعاتكم في المصر [مدينة الكوفة] فادعوا إلى أمركم هذا».
ساعة الصفر
في ظلّ أجواء الانفتاح أعلنت حركة التوابين عن نفسها، وراحت تجاهر بدعوتها على الملأ، وكان من مظاهر ذلك: «أن أصحاب سليمان خرجوا ينشرون السلاح ظاهرين ويتجهزون، يُجاهرون بجهازهم وما يصلحهم».
ثمّ لم يلبثوا أنْ أعلنوا جهراً ساعة الصفر، وقد كان متفقاً عليها قبل ذلك، يعرفها المجلس القيادي وهيئة الشورى في الحركة، بالإضافة إلى الزعامات التي راسلتها الحركة، ولا سيّما قيادات البصرة والمدائن، إذ كان مما جاء في كتاب سليمان إلى قائد المدائن سعد بن حذيفة بن اليمان، قوله: «فأما الأجل فغرّة شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين، وأما الموطن الذي يلقوننا فيه فالنُخَيلة» (الطبري، ج5، ص 69).
فساعة الصفر إذن، هي هلال شهر ربيع الثاني من عام 65هـ، والمكان هي منطقة النخيلة، والجهة إلى الشام.
موقف نساء الكوفة
من أبرز حوادث الكوفة في المرحلة الانتقاليَّة المعقّدة هذه، أنَّ الناس وثبوا على عمرو بن حريث وكيل ابن زياد، وطردوه من القصر، وخلعوا بيعة بني أميَّة؛ لكنْ إلى من؟! لا بُدَّ للمدينة من أميرٍ يدبّر أمرها ويدير شؤونها. عند هذه اللحظة، لا يذكر التأريخ كيف حصل ذلك، إنما يكتفي بأنَّ جماعة من الكوفيين (هم من أنصار الارستقراطيَّة الكوفيَّة على الأغلب!) نادت: «إنما البيعة لأهل الحجر» أي لأهل الحجاز، ثمّ عرضت من فورها اسم عمر بن سعد، قائد الجيش الذي ذهب إلى كربلاء لقتل الحسين، فكانت ردّة فعلٍ عندما همّوا بتأميره، لكنْ من قِبل النساء، وقد تنادين بموقفٍ سياسي جماعي رافض، قلبَ النتيجة ضدّ ابن سعد.
سأترك للمؤرّخ الحكيم المسعودي، وهو يصوّر لنا موقف هؤلاء النسوة، بقوله: «أقبل نساء من همدان وغيرهنّ من نساء كهلان والأنصار وربيعة والنخع، حتى دخلنَ المسجد الجامع، صارخات باكيات مُعوِلات يندبن الحسين، ويقلن: أما رضي عمر بن سعد بقتل الحسين حتى أراد أنْ يكون أميراً علينا على الكوفة! فبكى الناس، وأعرضوا عن عمر» (مروج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي، ج 3، ص 101).
بديهيٌ من الصعب جداً أنْ يسمح ميزان القوى داخل الكوفة، لتسلل عمر بن سعد إلى موقع الإمارة، حتى ولو كان ذلك برمزيَّة الحجاز والسيادة القرشيَّة، ومن غير المتوقّع أنَّ التوابين كانوا يسمحون بحصول ذلك، فضلاً عن غيرهم من القوى المتربّصة والطامعة، وفي الطليعة حزبا المختار وابن الزبير، لكنْ في كلّ الأحوال، سجّل التأريخ هذا الموقف السياسي الشجاع لنساء الكوفة في إحباط هذه العمليَّة، ووأدها في مهدها قبل أنْ تتحوّل إلى فتنة.
مساومات وصراعات
بعد طرد الوالي الرسمي والتنصّل عن بيعة الأمويين، انطلق التوابون في عملٍ دعوي دؤوبٍ نجح في توسيع قاعدتهم الشعبيَّة. يذكر الطبري: «لم يزل أصحاب سليمان بن صُرد يدعون شيعتهم وغيرهم من أهل مصرهم، حتى كثُر تبعهم، وكان الناس إلى أتباعهم بعد هلاك يزيد بن معاوية، أسرع منهم قبل ذلك» (الطبري، ج 5، ص 73).
من المتغيّرات المهمّة قدوم المختار الثقفي إلى الكوفة بعد ستة أشهر مضت على هلاك يزيد بن معاوية، وقد دخل في منافسة مع التوابين وزعيمهم سليمان، عندما رأى فيهم حجر عثرة أمام مشروعه السياسي، وكان أقلّ ما يثبّط به، قوله: «أتدرون ما يريد هذا؟ [يقصد به سليمان] إنما يريد أنْ يخرج فيقتل نفسه ويقتلكم، ليس له بصرٌ بالحروب، ولا له علمٌ بها» (المصدر السابق، ص 74).
من غرائب مقادير الكوفة أنَّه دخلها بعد ثمانية أيام من قدوم المختار إليها، مندوبان عن طامع آخر هو عبد الله بن الزبير، هما عبد الله بن يزيد الأنصاري أميراً عليها من قبله، وإبراهيم بن محمد بن طلحة مسؤولاً عن خراجها وجبي الأموال.
يسجّل لنا التأريخ أنَّ فجوة حصلت بين مندوبي ابن الزبير في الموقف من التوابين، ففيما مال الأول إلى الانفتاح عليهم والسعي لمجاملتهم وكسب ثقتهم، جنح الآخر إلى الريبة والتصعيد ضدّهم، قبل أنْ يستقرّ الموقف لصالح عبد الله بن يزيد.
في مرّة من المرّات أوغروا صدر عبد الله بن يزيد ضدّ الحركة وألّبوه عليها، فرفض الانجرار إلى معركة خاسرة، وقال: «الله بيننا وبينهم، إن هُم قاتلونا قتلناهم، وإن تركونا لم نطلبهم» ثمّ سأل: ما يريد هؤلاء؟ قالوا له: يطلبون بدم الحسين، قال: فأنا قتلت الحسين؟ لعن الله قاتل الحسين. ثمّ قال في خطابٍ عامٍ على الناس، مما جاء فيه: علام يقاتلوني؟ فوا الله ما أنا قتلتُ حسيناً، ولا أنا ممن قاتله، ولقد أُصبت بمقتله رحمة الله عليه. ثمّ أعلن ما يشبه الأمان العام للحركة في ممارسة دعوتها، والتجهّز لعدوّها، وهو يقول: إن هؤلاء القومَ آمنون، فليخرجوا ولينتشروا ظاهرين ليسيروا إلى من قتل الحسين.. وأنا لهم على قاتله ظهير.
بهذا اتخذت الحركة موقفاً مساكناً هادئاً مع مندوبي ابن الزبير، ربما جاءت تفصيلاته أقلّ توتراً، مما كان بينها وبين المختار.
يا لثارات الحسين
ساعة الصفر هي الأول من ربيع الثاني سنة 65هـ، ومعسكر التجمّع الأولي هي النُخَيلة، وكلمة السرّ، هي شعار: يا لثارات الحسين.
أغلب الظنّ أنَّ التوابين هم من أبدعوا هذا الشعار، أو كانوا أوّل من استعمله كرمزٍ حركي، لإطلاق فعلٍ جماعي منتقمٍ رافض. وقد مررتُ أكثر من مرّة على ملاحظة نابهة لحسن إبراهيم حسن، يقول فيها: «وقد اتخذ بنو أميَّة من يوم كربلاء سبباً كافياً يدعوهم إلى أنْ يندموا على ما فرّطت أيديهم، إذ إنَّ هذا اليوم وحّد صفوف الشيعة، فصاحوا صيحة
واحدة: الأخذ بثأر الحسين، هذا النداء الذي دوّى في كلّ مكان» (تأريخ الإسلام، ج 1، ص 401).
لنعد إلى أجواء الكوفة يوم هبّ فيها هذا النداء. فعندما هلّ هلال ربيع الثاني سنة 65هـ، وتجمّع طلائع الحركة في النُخَيلة، انطلقت بأمر سليمان بن صُرد، مجموعة من الفرسان بقيادة حكيم بن منقذ الكندي، وأخرى بقيادة الوليد بن غصين الكناني، وراحت كلّ واحدة منهما تجوب شوارع الكوفة وأزقتها، وهي لا تكفّ عن ترداد نداء واحد فقط: يا لثارات الحسين.
ويحك.. أجُننت
عندما مرّت كوكبة الفرسان بحيّ بني كثير، هزّت ساكنيه وحرّكت مشاعرهم من الأعماق، وكان من بينهم رجلٌ من بني كثير من الأزد يدعى عبد الله بن خازم، يعيش مع زوجته سهلة بنت سبرة بن عمرو من بني كثير أيضاً، توصف بأنها من أجمل النساء وأحبّهم إلى زوجها. فلما سمع الصوت: يا لثارات الحسين، وثب إلى ثيابه فلبسها، ودعا بسلاحه، وأمر بإسراج فرسه، علماً بأنه لم يكن من التوابين، ولم يتردّد عليهم ولا استجاب لهم في ما سلف، فقالت له زوجته مبهوتة: ويحك أجُننت! قال: لا والله، ولكني سمعتُ داعي الله فأنا مجيبه، أنا طالبٌ بدم هذا الرجل حتى أموت أو يقضي الله من أمري ما هو أحبّ إليه.
حاولت المرأة أن تُثني زوجها بكلّ وسيلة، وتحول بين خروجه إلى معسكر التوابين، فكان آخر ما توسّلت به هو عاطفة الأبوّة، فقالت له وهي تدفع ولدها أمامه: إلى من تدع بنيّك هذا؟ قال: إلى الله وحده لا شريك له. ثمّ أردف قبل خروجه: اللهم إني استودعك أهلي وولدي، اللهم احفظني فيهم، ثمّ خرج ملتحقاً بالتوابين.
من ذنبه إلى ربه
لم يكن ذلك النداء سوى انبعاث من داخل النفوس المقبلة المستجيبة، لذلك تجاوب معه كلّ من حظي بالاستعداد. لم تزل خيل التوابين ومفارز فرسانهم، تواصل تطوافها بالكوفة، وقد وصلت مجدّداً إلى المسجد الأعظم بعد العتمة، وفيه ناس كثير يصلون، فنادوا: يا لثارات الحسين، فردّد أبو عزة القايضي: يا لثارات الحسين، ثمّ سأل: أين جماعة القوم؟ قالوا له: بالنُخَيلة. فخرج الرجل حتى أتى أهله، فأخذ سلاحه، ودعا بفرسه ليركبه، فجاءت ابنته الرواع، فقالت: يا أبتِ، مالي أراك قد تقلدتَ سيفك، ولبست سلاحك؟ فقال لها: يا بُنيَّة، إن أباك يفرّ من ذنبه إلى ربّه.
الزيارة المسلحة
لقد كانت خطوة سديدة من سليمان بن صُرد وبقيَّة قادة الحركة، وهم يتجهون بأنصارهم إلى زيارة كربلاء أولاً، ثمّ ينعطفون لحرب عدوهم.
سأترك للطبري يرسم بعض ملامح تلك الزيارة الجماعيَّة التي ربما شارك بها أربعة آلاف مقاتل من الكوفيين، فعندما وصل هؤلاء قبر الحسين أقاموا به ليلة ويوماً يُصلّون ويستغفرون، ثمّ قال الطبري: «فلما انتهى الناس إلى قبر الحسين صاحوا صيحة واحدة وبكوا، فما رأيتُ يوماً كان أكثر باكياً منه».
وفي نص آخر: «لما انتهى سليمان بن صُرد وأصحابه إلى قبر الحسين نادوا صيحة واحدة: يا ربّ إنّا قد خذلنا ابن بنت نبينا، فاغفر لنا ما مضى منا، وتب علينا أنك أنت التوّاب الرحيم... فأقاموا عنده يوماً وليلة يُصلّون عليه ويبكون ويتضرعون، وزادهم ذلك حنقاً... فوا الله لرأيتهم ازدحموا على قبره أكثر من ازدحام الناس على الحجر الأسود» (الطبري، ج 5، ص 97).
يبدو من متابعة المشهد أنَّ من كان يشرف على هذه الزيارة الجماعيَّة التي راحت تُلهب الحماس في نفوس هؤلاء الألوف من الثائرين التائبين، هما سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة، فكانا يطلبان من أصحابهم أن يتحرّكوا من عند القبر الشريف فاسحين مجال الزيارة لبقيَّة إخوانهم من التوابين، وهما يقولان لهم: ألحقوا بإخوانكم رحمكم الله.
ثمّ إذا ما انتهت الألوف من هذه الزيارة المكللة بدموع الحزن والندم على تضييع حق الحسين في نصرته، بقي من القوم نحو ثلاثين شخصاً مع سليمان هم رأس الحركة ونخبتها، أحاطوا بالقبر الشريف، وجدّدوا العزم عند صاحب القبر على المضي قدماً في الثأر من قاتليه أو الموت دون ذلك.