لم تعد زيارة الإمام الحسين {ع} تخصّ طائفة، نعم، كانت تخصُّ طائفة يوم شعر الطاغية أنَّ الزيارة الأربعينيَّة صارت خطراً عليه، أما الآن فإنَّها أصبحت تخصّ كل الطوائف والأديان والأقوام، وصارت أربعينيته {ع}، برغم أنها أكبر تجمعٍ دينيٍ عالمي، أشبه بمؤتمر إنساني عالمي للتلاقي الفكري والتواصل المعرفي والتلاحم الاجتماعي بين المسلمين من مختلف دول العالم، تسود ملايينها مشاعر المحبة والاخاء والإنسانيَّة، ويوحدهم شعورٌ نبيلٌ وعظيمٌ هو إدراكهم أنَّ هدف ثورة الحسين هو تحرير الإنسان من الظلم والطغيان وأنْ يعيش بكرامة في نظامٍ قائم على العدالة الاجتماعيَّة.
ليس هذا فقط، بل انَّ زيارة الأربعين وفرت، في سنواتها الأخيرة، فرصة استثنائيَّة لاكتساب ثقافاتٍ وأفكارٍ جديدة من مجتمعات أخرى لديها ثقافات أخرى. وإنَّ الأجواء السايكولوجيَّة للمناسبة أشاعت بين المشاركين روح التفاهم والتسامح والتعايش السلمي ونبذ الكراهية والطائفيَّة والتعامل مع الناس بالتساوي.
وما يدهشك أنَّ ثورات عظيمة في التاريخ، باتت الآن منسيَّة، بينما ثورة الحسين تتجدد وتبقى خالدة رغم أنَّ القائم بها كان رجلاً واحداً، وأنَّه مضى عليها أكثر من ألف عام؛ والسبب هو أنَّ موت الضمائر وتهرؤ الأخلاق والزيف الديني هي التي تشطر الناس الى قسمين: حكّام يستبدون بالسلطة والثروة، وجماهير مغلوبٍ على أمرها، فتغدو القضيَّة صراعاً أزلياً لا يحدها زمانٌ ولا مكان، ولا صنف من الحكّام أو الشعوب.
ومن هنا كان استشهاد الحسين "ع" يمثل موقفاً متفرداً لقضيَّة إنسانيَّة عالميَّة مطلقة، ما دامت هنالك سلطة فيها: حاكم ومحكوم، وظالم ومظلوم، وحق وباطل، الأمر الذي يعني أنَّ زيارة الأربعين تكتنز قيماً ومبادئ اجتماعيَّة ودينيَّة وثقافيَّة وسياسيَّة ينبغي أنْ يوليها الإعلام العراقي اهتمامه بالتركيز عليها وتغليبها على الانفعالات المبالغ بها بضرب الزنجيل وتلطيخ الرأس والوجه بالطين، التي أدانها الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله وخاطب الشباب أنْ (تأدبوا بآداب الحسين، تخلقوا بأخلاقه) ودعاهم الى أنْ يحملوا فكر الحسين.
ومن جميل ما حصل في السنوات الأخيرة من شباب نقيض هؤلاء أنَّهم نصبوا في طرق المشاة الخارجيَّة من بابل والنجف الأشرف وبغداد الى كربلاء المقدسة سرادق ثقافيَّة تعرض فيها الكتب والكراسات بعناوين ذات اهتمام الناس، وتحت شعار: "طالع ساعة واحصل هديَّة كتاب"، في تجربة متطورة لاقت إعجاباً وتفاعلاً من الشباب على وجه التحديد.
وقضيَّة أخرى لم ينتبه لها كثيرون، أنَّ ثورة الإمام الحسين "ع" تنفرد بتعدد النظريات التي تفسر أسبابها، والشائع منها يمنحها هويَّة سياسيَّة أو إسلاميَّة، بينما الهويَّة الحقيقيَّة لها أنَّها ثورة أخلاقيَّة. فلو كانت سياسيَّة فإنَّ هدف القائم بالثورة يكون الوصول الى السلطة بينما الحسين "ع" كان يعرف أنه مقتول. ولو كانت إسلاميَّة لما تعاطف معها مسيحيون وقادة غير إسلاميين بينهم غاندي، فضلاً عن أنَّ الحاكم (الخليفة) كان يحتاج الى الدين لبقائه في السلطة، وتلك قضيَّة كانت غائبة عن الإعلام العراقي لسنين.
ودرسٌ آخر نتعلمه يتعلق بـ (المبدأ)، فقد كان بإمكان الحسين أنْ ينجو وأهله وأصحابه بمجرد أنْ ينطق كلمة واحدة: (بايعت)، لكنه كان صاحب مبدأ: (خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي) والإصلاح مسألة أخلاقيَّة، ولأنه وجد أنَّ الحق ضاع: (ألا ترون أنَّ الحق لا يعمل به)، ولأنَّ الفساد قد تفشى وشاعت الرذيلة وكلها مسائل أخلاقيَّة.
وكان عليه أنْ يختار بين: أنْ يوقظ الضمائر ويحيي الأخلاق، أو أنْ يميتها ويبقى حياً فاختار الموت، وتقصّد أنْ يكون بتلك التراجيديا الفجائعيَّة ليكون المشهد قضيَّة إنسانيَّة أزليَّة بين خصمين: سلطان جائر وجموع مغلوب على أمرها، ورسالة واضحة المعالم الى كل الطغاة للكف عن أساليبهم في انتهاك حقوق الأمة، وأخرى للفقراء والمظلومين والمستلبين، أنَّ لا يأس مع من يقتدي بقيم الحسين، ويدرك أنَّ هدف ثورته هو تحرير الإنسان من الظلم والطغيان وأنْ يعيش بكرامة في نظامٍ قائمٍ على العدالة الاجتماعيَّة، ويتباهى أنَّ الأربعينيَّة صارت الآن أكبر تظاهرة دينيَّة بهويَّة إنسانيَّة كربلائيَّة عراقيَّة.