الذكاء الاصطناعي.. صانع الوظائف أم مدمرها؟

بانوراما 2023/08/31
...

 سادوان راب ماجومدار
 ترجمة: مي اسماعيل


يتحرى كثيرون التأثيرات المحتملة للذكاء الإصطناعي على سوق العمل؛ لكنه يبقى واحدا من أكثر الابتكارات أهمية في التاريخ الحديث. منذ الثورة الصناعية ارتفع معدل التقدم بسرعة فائقة، واليوم نقف على حدود ثورة جديدة انطلقت بفعل تكنولوجيا جديدة وشيكة.
تصوروا عالما يمكن فيه صناعة سيارة جديدة من الصفر دون ان نُحرك اصبعا، وحيث يمكن صنع برامج تنجز مهامنا وتكتب تقاريرنا، أو حتى تخلق أحدٍ نتحدث اليه لساعات. وحيث يمكن لماكنة ما ان تنظف المنازل وتحميها أو حتى تبنيها.. نحن نعيش الآن في هذا العالم؛ عالم المستقبل والذكاء الصناعي.  

يمكن تعريف الذكاء الاصطناعي بأنه.. "نظرية وتطوير أنظمة الكومبيوتر القادرة على أداء مهام تتطلب عادة ذكاء بشريا؛ مثل الإدراك البصري والتعرف على الكلام واتخاذ القرار والترجمة بين اللغات". كان "جون مكارثي" أول من قدّم هذا المصطلح عام 1956؛ حينما طرح فكرة تطوير لغة برمجة جديدة يمكنها تقديم الذكاء للآلات. وأصبح التعلم الآلي ومعالجة اللغة الطبيعية والروبوتات من بين تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي يتم البحث فيها وتوظيفها ضمن مجالات مثل التصنيع والرعاية الصحية والزراعة والتمويل. لكن المخاوف تتزايد اليوم، بينما تهدد تلك التكنولوجيا الثورية الوظائف كما لم يحدث سابقا.. وكان بعض المحللين قد تنبؤوا أن أكثر من نصف عناوين الوظائف ضمن عالم اليوم قد يعفو عليها الزمن في مستقبل قريب بسبب الذكاء الاصطناعي؛ مما أدى إلى إبراز قضية البطالة والعمالة ذات الأجور المتدنية.
على عكس العديد من مسيرات التقدم السابقة، تشكل تكنولوجيا اليوم المتطورة خطرا على وظائف العمال في جميع مجالات الخبرة والتعليم. في قطاع الهندسة يتحرك الذكاء الاصطناعي بمقاربة ملحوظة، وهو الآن في مقدمة ممارسات الصناعة. إذ أدت تقنية "إنترنت الأشياء- (IoT)" لجمع البيانات الضخمة خلال السنوات الأخيرة إلى تسريع تطوير الذكاء الاصطناعي وغيره من أدوات البحث عن المعلومات وتحليلها. ونتيجة لهذه التطورات ستمر العديد من جوانب التصنيع بعملية تحول في مجال معالجة البيانات الضخمة؛ مما ستؤدي إلى تطوير "مصانع ذكية" مع دورات تصنيع مؤتمتة بالكامل وذكية. ومن الأمثلة على الذكاء الاصطناعي في قطاع التصنيع: المركبات ذاتية القيادة والروبوتات وصناعات الصلب وأشباه الموصلات وتصنيع السيارات.

"الزيادة الذكية"
سيقود تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى خلخلة بعض قطاعات العمل في العالم؛ إذ إن المهام المتكررة والروتينية التي يمكن أتمتتها بواسطة أنظمة الذكاء الاصطناعي قد تقود الى تناقص الطلب على وظائف العمالة اليدوية وقليلة المهارة. فعلى سبيل المثال قد يؤدي ذلك الى ضعف الطلب على العمال في مراكز التصنيع وخدمات الزبائن بينما تحل الروبوتات المبرمجة بالذكاء الاصطناعي  محل العمال البشريين. هذا الاستبدال قد يؤدي لفقدان العمل على المدى القصير والحاجة الى اعادة توفير المهارات أو رفع مستواها؛ حتى يمكن التكيف مع تغير متطلبات الاعمال. بتوفر إمكانية القيام بعمل نحو مئة رجل في آن واحد بشكل أسرع وأكثر كفاءة؛ أصبحت الشركات تتحول الى استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. وباتت فكرة "الزيادة الذكية" تعمل كأساس لأنجح أنظمة الذكاء الاصطناعي؛ فهذه الاخيرة تقوم بالحسابات البسيطة والتحليل، وتحرر المشغلين المهرة من الأعمال الشاقة واستيعاب البيانات وتصنيف المعلومات وطلبها، وتشغيل عمليات المحاكاة.. وأخيرا- يأتي دور المُشغّل البشري لاتخاذ القرار.
في مستقبل الذكاء الاصطناعي، ستتمتع الوظائف التي تتطلب إبداعا بشريا ومهارات إدارية بأعلى مستوى من الأمان الوظيفي؛ وهذه ميزتنا التنافسية كأفراد.. والذين يفهمون كيفية العمل مع الآخرين مع استخدام ادوات الذكاء الاصطناعي لزيادة الفعالية التنظيمية سيخلقون القيمة الأكبر. من أهم أمثلة استحواذ الذكاء الاصطناعي على اعمال البشر- السيارات ذاتية القيادة.. ففي أغلب دول آسيا يمثل السائقون جزءًا كبيرا من أفراد الشعب؛ وبتزايد انتشار المركبات ذاتية القيادة ستنتهي فرص عمل الملايين من السائقين. ومن ناحية أخرى يوفر اعتماد الذكاء الاصطناعي فرصا كبيرة لخلق أعمال جديدة، ولأن تقنيات الذكاء الاصطناعي أصبحت أكثر انتشارا؛  سيكون هناك طلب متزايد على المهنيين المهرة لتطوير أنظمته وتطبيقها وصيانتها. وسيتزايد الطلب على الأدوار المتخصصة مثل- مهندسي الذكاء الاصطناعي وعلماء البيانات ومدربي وخبراء الذكاء الاصطناعي الأخلاقي.

مجمل التحولات
تجسمت الآن مخاطر قيام الأتمتة بتدمير مجموعة واسعة من الوظائف في جميع مرافق الاقتصاد العالمي، وباستمرار تقدم أنظمة الذكاء الاصطناعي؛ ستحدث موجة اخرى من هجرة الأعمال بشكل شبه مؤكد. هذا يمكن أن يرسم صورة مثيرة للإحباط؛ ولكن لنفهم الآتي: سيجري استحداث العديد من الوظائف الجديدة؛ وظائف لا تشبه تلك الموجودة اليوم. وهذه العملية مستمرة منذ عقود؛ فالتكنولوجيا الجديدة لا تستحوذ على وظائف الطبقة العاملة الحالية فحسب؛ بل تخلق وظائف جديدة ايضا. فعلى سبيل المثال اكتسب استخدام الروبوتات في صناعة السيارات شعبية خلال النصف الأخير من القرن العشرين؛ إذ تم استخدامه بدءً لتنفيذ مهام خطية المسار ومتكررة، مما ساعد على تعزيز الإنتاجية وتوحيد جودة المنتوج وإبقاء التكاليف تحت السيطرة. وتحت شعار "مصنوعة يدويا بواسطة الروبوت" أطلقت شركة "فيات" اعلانها التلفزيوني عام 1979 لتصنيع سيارة "سترادا". وكان العاملون هنا من أوائل من جرى استبدالهم بخطوط انتاجية للروبوتات، لإنجاز مهام مثل اللحام والصباغة؛ مع وجود انسان يراقب تلك الآلات. وبتقدم التكنولوجيا تزايدت العمليات المعقدة التي أُنيطت بالروبوت؛ مثل استبدال زجاجة السيارة الأمامية، ويجرى تحديثها مرارا في المعامل الكبرى لنقل منتجات كبيرة وثقيلة. ومن المتوقع على مدى العقد المقبل أن تتكون نسبة لا يستهان بها من الوظائف المستحدثة من مهن جديدة تماما أو وظائف شاغرة في المهن القائمة؛ التي تتغير بشكل كبير من حيث الوصف الوظيفي ومتطلبات التأهيل. تلك المهن الناشئة قد تحمل فرصا وقابلة للتحقيق للناس؛ من حيث الحراك الاجتماعي والازدهار الاقتصادي.. ويمكن القول ان تقدم مسار الثورة الصناعية الرابعة سيعجّل من خلق الوظائف الجديدة.
وجد تقرير "مستقبل الوظائف" الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي سنة 2018 أن تحولات سوق العمل الذي تحدثه الثورة الصناعية الرابعة سيخلق نحو 133 مليون فرصة عمل جديدة على مستوى العالم، للفترة من 2022 إلى 2026. بينما نُقدّر ان نحو 75 مليون فرصة عمل قد تكون في عداد المفقودة. من مجمل تلك التحولات؛ ستُشكل الوظائف الجديدة كليا نحو 16 بالمئة من جميع الوظائف عام 2022؛ وهي نسبة يُقدّر ارتفاعها الى نحو 27 بالمئة عام 2026. وللخوض في المشهد الوظيفي المتحول؛ تعتبر برامج إعادة ورفع المهارات أمرا بالغ الأهمية للقوى العاملة. ويجب تبني المبادرات لتأهيل الأفراد بالمهارات الضرورية للعمل جنبا الى جنب مع الذكاء الاصطناعي بكفاءة.  ولا بد من تضافر جهود الحكومات والمؤسسات التعليمية والقطاع الخاص لتفعيل برامج التدريب التي تُركّز على
محو الأمية في مجال الذكاء الاصطناعي، وعلى تحليلات البيانات والبرمجة والتفكير النقدي.  

صحيفة {داكار تربيون}