هشام داوود
من منّا لا يشكل الموت كابوساً له؟ ومن منا الذي لا يهرب مباشرةً عندما تراوده فكرة الموت وأنَّ مصيره سيكون ذات يوم مجرّد جثة وتنزل يوماً ما إلى القبر وحياة أسرته وأصدقائه تستمر من دونه؟ الجواب لا أحد.
فالجميع يتوجّس من فكرة الموت والجميع يذعر من مجرد أنْ تراوده هذه الكلمة ولو لثوانٍ، لذلك يهرب في محاولة لتجنّب التفكير وتخيّل الموت.
لذلك فإنَّ الخلود أمنية تسكن كلَّ البشر، سواء عبّروا عنها أم لم يعبِّروا، سواء وقعوا في حبِّ الحياة وملذاتها أم زهدوا فيها، ففي النهاية يتمنى كلُّ إنسان أنْ يُخلّد اسمه جيلاً بعد جيل، وأنْ يستمرَّ الحزن عليه وعلى ذكراه دون أنْ يتم نسيانه من قبل أهله وأصدقائه، ولعلَّ هذه الأمنية هي أصعب غاية على الإنسان إنْ لم تكن أحد المستحيلات.
وحده الحسين بن علي (عليهما السلام) الذي حقق هذه الغاية، وتتجسَّد العظمة في الحسين بأنه لم يحققها بين أبناء وسطه من بني أهله وقومه وخاصته فحسب، لأنه سخّر الخلود نفسه في قضيَّة الحزن عليه.
في كلِّ عام وتحديداً في الأيام الأخيرة التي تسبق ليلة الأربعين، وأنا أتطلع وأراقب حركة الأمواج البشريَّة المتدفقة صوب ضريح أبي عبد الله، تبدأ الأسئلة تنهال على عقلي مثل المطر، فمنها على سبيل المثال، أي قوة خفيَّة تجعل من كربلاء تماماً وكأنها المدينة الفاضلة التي تخيلها أفلاطون؟ الجميع يقدم الخدمة للجميع، الجميع ينفق من جيبه من أجل الجميع، الجميع يتعب لأجل راحة الجميع، ليأتي السؤال الآخر، أليسوا هم أنفسهم من كانوا قبل بضعة أيام يتنافسون في البيع والشراء ويتسابقون الواحد مع الآخر لنيل المكاسب، فكيف تكاملت أخلاقهم في سبيل الحسين وصاروا ملائكة بهيئة بشر الأمر الذي عجزت فيه كلُّ الأديان والشرائع أْن تجعلهم على ما هم عليه من صفات في حضرة الحسين؟
هل هو الثائر الوحيد في الكون ضدَّ الظلم؟ بالتأكيد لا، هل هو الشخص الوحيد الذي وهب دمه وروحه من أجل أبناء قومه؟ الجواب أيضاً لا، فقد سبقه الكثير من الأنبياء والصالحين الذين قدّموا أرواحهم قرابين من أجل غيرهم، إذاً فلماذا الحسين يتميز عنهم بأنْ صارت ذكراه تمرّ كلَّ عام وكأنها لم تمرّ على الناس من قبل؟.
فأيّ عظمة هذه وأيّ سرٍ عظيم في الحسين.
وما أنْ أحاول التفكير في أمر آخر لأريح دماغي إلا وجدت نفسي محاصراً بمجموعة غيرها من الأسئلة، وإنْ حاولت أنْ أفكر في الموضوع وأنظر للمشهد بعين شخص غير مسلم فإنَّ أمواج التفكير ترمي بي صوب شاطئ العظمة الحسينيَّة، فهذه الجموع الغفيرة التي تأتي سيراً على الأقدام من أقاصي آسيا بملامحهم الآسيويَّة، صينيين وغيرهم، هنوداً وغيرهم، أفارقة وأوربيين، ماذا يعرف المسلمون عن أمواتهم؟ وماذا يعرف الفرد المسلم عن هؤلاء الأقوام ومن يخلدون أو يقدسون؟ وإنْ تفوقوا وسبقوا المسلمين في الانفتاح عليهم، فلماذا لم يعرف هؤلاء من أموات المسلمين غير الحسين؟
أيّ كلام يصف الحسين وأيّ كلمات تفي عظمته وتعطيها حقها؟
وتنتهي المناسبة الخالدة، وتنسحب الجموع البشريَّة ومعها تنسحب شيئاً فشيئاً علامات مدينة أفلاطون، لكنَّ روحانيَّة كربلاء لا تنتهي أبد الدهر، فضريح الحسين المشع نوراً أبداً، يقابله ضريح أخيه أبي الفضل العباس الذي يُشعرك سوره وتجعلك مناراته تتخيّل نفسك وكأنك تكلمه وبروحانيَّة منقطعة النظير، وعلى مقربة من الضريحين هناك المخيم الذي أقام فيه الإمام وأهل بيته، وحول الضريحين تجد الكثير من القباب الصغيرة ومن بينها مكان قطع كفّ العباس، منظر ومشاهد أجزم بأنها تدفع المرء لأنْ يتخيّل أنَّ المعركة انتهت قبل ساعات وليس قبل ألف وأربعمئة عام، فهل يُعقل ألا تكون كربلاء معجزة.