حيدر الجابر
تتابعت حركة التدوين منذ واقعة الطف، التي أثارت في عقل الأمة سؤالاً مهماً وخطراً، عن الحد الفاصل بين قدسيَّة ثوابت الإسلام وبين حرمة أضعاف الدولة الإسلاميَّة، أو ما يسمى "شق عصا المسلمين".
وقد تمظهرت حركة التدوين بتوثيق السرديات، التي نقلت ما حصل في المعركة العظيمة، التي جرت صبيحة العاشر من محرم عام 61 هـ، وقد تكررت الأخبار التي جرت في معسكر الحسين "ع"، حتى صارت حوارات دراميَّة، ومواقف شجاعة، ومشاهد بطوليَّة، وكذلك ما جرى قبل وبعد العاشر من محرم، وارهاصات خروج الإمام الى الكوفة، وقبلها إلى مكة المكرمة، وحتى تداعيات الواقعة، التي أفضت إلى حركتين عسكريتين: التوابين والمختار الثقفي، ثم تضعضع الحكم الأموي، وتتابع حركات التمرد، والتي انتهت بعد نحو 60 عاماً بسقوط الدولة الأمويَّة إلى غير رجعة، وتحت شعار "الرضا من آل محمد".
إلا أنَّ ما يؤخذ على سير الأولين أنها اكتفت بتوثيق الروايات، وليس تمحيصها، وهو ما انتبه إليه العديد من الكتاب، من بينهم الدكتور فؤاد الشويلي مؤلف كتاب (الخروج).
فقد اتفق الكاتب مع رأي عبد الرحمن بن خلدون الذي انتقد في مقدمته الشهيرة اكتفاء المؤرخ بالنقل بلا دراسة "وكثيراً ما وقع للمؤرّخين والمفسّرين وأئمّة النّقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرّد النّقل غثّاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النّظر والبصيرة في الأخبار، فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط".
وخلال المئة عام الأخيرة، نشط المفكرون في إعادة كتابة تاريخ كربلاء، وبرز من بينهم آيَّة الله نجف آبادي صاحب كتاب "الشهيد الخالد"، وعلي شريعتي صاحب كتاب "الحسين وارث آدم"، والسيد محمد باقر الصدر صاحب كتاب "الحسين يكتب قصته الأخيرة"، والسيد محمد الصدر في كتابين: "أضواء على ثورة الحسين" و"شذرات من ثورة الحسين".
ويثير فؤاد الشويلي إشكاليَّة حول المصطلح، إذ يتساءل عن صواب إطلاق صفة الثورة أو النهضة أو الملحمة على واقعة الطف، وهو تساؤلٌ يبدو منطقياً في حال تجاهلنا تعميم الأوصاف بسخاء، ويتحدث بواقعيَّة وتفصيلٍ عن تعريف كل مصطلح وشروطه، ويقارنها بالحركة الحسينيَّة.
وهو بذلك يقترح مصطلحاً يراه أكثر واقعيَّة.. "الخروج"، إلا أنَّه يفرق بحذرٍ بينه وبين الخوارج، أول طائفة تكفيريَّة في الإسلام.
ويركز كتاب (الخروج) - كما يتبين من عنوانه الفرعي - على فعل الحسين "ع" ونصوصه وحواراته، وهو بهذا يعتمد على الحوار كدليلٍ على مسار الأحداث، وقد نتفاجأ بكميَّة الصبر التي تمتع بها الكاتب وهو يراقبُ النصوصَ، ويفحصها، وبتفصيلٍ ضروري، للخروج بنتائج تصمد أمام النقد.
ويثير الكاتب - وهو رجل دين أولاً - استفزاز القارئ التقليدي، إذ يثبت أنَّ أهل المدينة المنورة لم يكونوا حسينيين، وأنَّ ثلاثة من زعماء بني هاشم، وهم صحابة وتابعون، كانوا سلبيين جداً، ولم يحركوا ساكناً أمام الدعوة الحسينيَّة للالتحاق، وهم حبر الأمة عبد الله بن عباس (رض)، وعبد الله بن جعفر الطيار (رض)، ومحمد بن الحنفيَّة (رض)، ثالث أبناء الإمام علي "ع".
وكذلك، يعدُّ د. فؤاد الشويلي أنَّ الشهادة تشمل الناجين من المعركة، والمقتولين، وأنَّ الفتح، الذي بشر به الإمام الحسين "ع" سيقتصر على من يلحق به، ويؤكد أنه حالة عباديَّة محضة.
ويعارض المؤلف ما يمكن أنْ نسميه "عقلنة مشروع الحسين"، ويدعم معارضته بعدة مواقف ذكرها المؤرخون، إذ لا يعقل مثلاً أنْ يرفض ثائرٌ ما عرضاً سخياً بالحماية واللجوء والنصرة، ولا عرضاً آخر من والي مكة بالأمان وتنفيذ المطالب، ويشمل ذلك التفسير غير الواقعي لقرارات الحسين "ع"، والسبب هو: أنَّ الحسين "ع" ينفذ أمراً إلهياً، وقد ذكر ذلك أكثر من مرة، وهو ما يبرر رفضه البقاء في مكة، والاعتصام بها، أو الذهاب الى اليمن للانطلاق من هناك بالثورة.
يساير الإمام الحسين "ع" الأحداث كما هي، فهو سلمٌ لمن سالم، حربٌ لمن حارب، إنَّ قضيته الأساس هي رفض بيعة يزيد بن معاوية، هذا الرفض الذي يستوجب الرحيل عن كل أرضٍ ترى أنَّ البيعة أمرٌ مفروغٌ منه دينياً.
يمكن القول إنَّ كتاب "الخروج" يطرح أفكاراً قابلة للنقاش، وأنه يحوم حول تفصيلات القضيَّة الحسينيَّة، بعيداً عن العواطف والآراء المستنسخة.
ويمكن أنْ يشكل الكتاب بادرة جديدة لرؤية متميزة، تضيف للمكتبة الفكريَّة ما يمكن أنْ يدفع الجيل الجديد إلى البحث والاستقصاء.
شخصياً، أظنّ أنَّ ما جرى في كربلاء يحتاج الى رؤى جديدة ومبتكرة، تبتعد عن الإنشاء، وتقترب من الإبداع، الذي يحتاج بدوره إلى عقولٍ متحفزة، تتمتع بالنشاط والرغبة في الوصول إلى المعلومة، أو إلى الحقيقة.