د.علي كريم خضير
كلُّ مَنْ اطَّلع على الثورة الحسينيَّة من مفكري العالم الأفذاذ، وجد أنَّ هذا اللون من التضحية لا شبيه له في أرجاء المعمورة؛ لأنَّ الصورة التي قُدِّمت فيها الشهادة تكاد تكون ضرباً من الخيال، فهذا التفاني وهذا الإخلاص من قبل أهل بيته وأصحابه تظلُّ دروساً حقيقيَّة في معنى الإيمان والجهاد من أجل إعلاء كلمة الحق والعدل التي حاول البيت الأموي طمس هويتها واقتياد الأمة الإسلاميَّة إلى واقع ما قبل البعثة النبويَّة عبر التمايز العرقي والقبلي وإشاعة المفاسد وهضم الحقوق وتوجيه الناس إلى عبادة السلطان بتوزيع الهبات والأموال من أجل شراء الذمم والعقول،
وقد كانت هذه الممارسات تشتد وطأتها يوماً بعد آخر حتى غاب صوت الضمير الحي، وظلت الأمة تتأرجح بين الثبات والسقوط في وقتٍ كان معاوية بن أبي سفيان يسعى إلى تثبيت أركان ملكه وهو يعلمُ بأنه لن يستعدي عليه أحدٌ إلَّا من طبعه الخالق بنور الإيمان وجلالة الخلق وأعني (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، فالصلح المشروط الذي تمَّ بينه وبين الإمام الحسن (ع) لم يكن مانعاً من عودة الإمام إلى الخلافة من جديد، ما دام يدرك تماماً عدم تقيِّد نفسه بشروط الصلح القائمة، الأمر الذي دعاه إلى تدبير مؤامرة دنيئة بدسِّ السم إلى الإمام (ع) واستشهاده على أثر ذلك. فأسرع بوصيته إلى ابنه يزيد بالحكم من بعده، وتلك سابقة خطيرة بتوريث السلطة لم تشهدها الأمة، هذا فضلاً عمَّا عُرف عن يزيد بن معاوية من استهتارٍ صريحٍ في اقتراف الموبقات وشرب الخمور وملاعبة القرود... وما شابه. هذه كلُّها تؤكد محاولات حرف الأمة عن جادَّة الصواب وتغيير مسار النهج الإسلامي القويم تمهيداً إلى ضرب الدين المحمدي بالصميم، على أنْ يكون هذا الرفض مشروعاً - من وجهة نظره - ومشفوعاً باختيار الأمة، وهكذا كان الإلحاح شديداً من قبل السلطة الأمويَّة على مبايعة الإمام الحسين (ع) ليزيد، بوصف الإمام (ع) رأس الهرم في بيت النبوة، وهو الوريث الشرعي لخلافة المسلمين بحسب ما نصَّت عليه اتفاقيَّة الصلح بين الإمام الحسن (ع) ومعاوية.
وإذا كانت إرادة الشعوب هي التي تصنع المعجزات، وتقاوم أيَّ نفوذ يعاكس الاتجاه، فالحقيقة أنَّ الأمة الإسلاميَّة وقتذاك لم تكن تحمل سلاح الإرادة، ولم تكن قادرة على الممانعة، لأنَّ معاوية قد أحكم نفوذه عليها، واستعمل الولاة الظالمين على أمصارها التي ترعرع فيها الإسلام نشأً حتى صار دين الإنسانيَّة في زمن فتوحات الخلفاء الراشدين. لهذا كانت ثورة الإمام الحسين (ع) بمثابة تجديدٍ للدعوة الإسلاميَّة واختبارٍ حقيقي للمؤمنين الذين حرصوا على الحفاظ على نشر راية الإسلام الحنيف، وهي ثورة ارتكزت خلافاً عن غيرها على مبادئ وقيم إنسانيَّة عالية، فالمناداة بالعدل وإنصاف الأمة وتأمين معاشها، ونبذ التناحر والاقتتال الطائفي والعرقي، هذه مسلمات تدعو لها كلُّ أمة متحضرة على وجه الأرض.
من هنا تجد أنَّ أنصار الإمام الحسين (ع) كانوا يمثلون فُسيفساء من هذه الفئات والطوائف المختلفة فتجد المسيحي ممثلاً بوهب النصراني، وتجد الفقير ممثلاً بجون مولى أبي ذر، وتجد السيد الجليل في قومه كالحر بن يزيد الرياحي، وتجد الغني فيهم كزهير بن القين، وتجد الصحابي كحبيب بن مظاهر الأسدي.. هؤلاءِ جميعاً كانوا خلاصة المؤمنين من الأمة، توفَّاهم الله شهداء مرملين بدمائهم الزكيَّة من أجل نصرة الحق، وإعلاء كلمة التقوى، هؤلاءِ وإنْ كانوا ثلَّةً قليلة، ولم تكن رسالتهم حينذاك ذات بالٍ للسلطة الأمويَّة الجائرة، لكنها تركت أثراً كبيراً في ما بعد وزلزلت الحكم من تحت أقدام يزيد بن معاوية، وأبلغ الدروس فيها، تمثلت في انعدام وجود الرغبة الحقيقيَّة لأبناء يزيد في تسلم مقاليد الحكم من بعد وفاته، وظلت آثارها باقية حتى نهاية الحكم الأموي على أيدي العباسيين بحجة الثأر لهذه الموقعة العظيمة ومظلوميَّة آل بيت رسول الله (ص).
وخلاصة الأمر، إنَّ ثورة الإمام الحسين (ع) تبقى حيَّة ما بقيت البشريَّة بفعل ما حملت من معانٍ أخلاقيَّة سامية، ودعوات صادقة لنبذ الظلم، بعد أنْ طالت التضحيات فيها الابن، والأخ، وابن العم، والصحابي وصولاً إلى النفس، ومظلوميَّة السبيّ للنساء العزَّل والأطفال.
هذه الثورة تعلَّمَ منها العالم القديم والحديث كثيراً من الدروس والعبر، وهي دليلٌ ومنهاجٌ لأيِّ ثائرٍ في العالم، وهكذا قال المهاتما غاندي مقولته الشهيرة: (تعلمتُ من الحسين أنْ أكون مظلوماً فأنتصر).
وإذا كانت الأمة الإسلاميَّة اليوم تعيش محنتها بالاستلاب والتهميش، فهي مطالبة بأخذ جرعتها العلاجيَّة من هذا المعين الذي يفيض سمُّواً وعدلاً ونقاءً، كي تستطيع أنْ تحافظ على نفسها من الهلاك والتشظِّي، وترتقي إلى حجم المسؤوليَّة التأريخيَّة المنوطة بها، وذلك بتطهير النفس من الأدران التي علقت بها بسبب ما نفثته فينا سموم الأفكار المستوردة غير المتفقة مع قيم ومبادئ ديننا الإسلامي الحنيف، وضرورة توجيه الأنظار إلى هذه النهضة العظيمة المعطاء، وإسكات جميع الأصوات النَّشاز التي ما انفكَّت تكيل التُّهم لاندثار معالمها في النفوس، متناسين أنَّ ما للهِ يبقى، وما للناسِ زائلٌ لا يدوم.