التفكير واللغة.. الأسبقيَّة.. العلاقات

ثقافة 2023/09/11
...

 سيمون مانو
 ترجمة: مظفر لامي

من العبث طرح تساؤل عن أيِّ من التفكير أم اللغة هو الأسبق، ففرص وجود لغة من دون تفكير هي أكثر من وجود تفكير من دون لغة. كتب هنري ديلاكروا (التفكير يكون اللغة، عبر استنباط نفسه من خلالها).في القانون، بإمكاننا تأكيد أسبقية الفكر على اللغة لأن العلامات هي من صنع الإنسان. مع ذلك، لا يوجد فكر بشكل مستقل عن اللغة.

وحين نبحث في إشكالية اعتماد التفكير على اللغة منذ بداية نشأته، نجد أنَّ الطفل يبدأ في التفكير في ذات الوقت الذي يتعلم فيه التكلم. الأمر الذي يدعونا لاستبعاد التساؤل عن الكيفية التي يشكل بها الإنسان أفكاره الأولى؛ فهي تصله مع العلامات، والانتباهة الأولى لتفكيره، هي بالتأكيد، من أجل فهم علامة ما. لا شك أن الإنسان قد عرف الإشارات قبل أن يعرف الأشياء. وقد نزيد على ذلك، أنه استخدمها قبل أن يتوفر لديه فهم لها. فالطفل يبكي ويصرخ من دون أن يكون لديه رغبة في الإشارة أولاً، لأن والدته تفهمه في الحال. وحين يقول ماما، التي هي أسهل وأول صوت يصدر من الشفاه، يفهم ما يقوله فقط من خلال التأثيرات، أي الأفعال والإشارات التي تبادله أمه بها مباشرة. (قال أرسطو الحكيم - الطفل يدعو جميع الرجال بأبي - في محاولاته للوصول للأفكار من خلال استخدامه للإشارات، وهو أمر مدرك قبل وقت طويل من الفهم، مما يعني أنه يتحدث قبل أن يفكر). والتجربة تظهر هنا، أن التطور يكون متماثلا في اللغة والتفكير.
هل يتوجب علينا إتباع من يقول أن الكلام يسبق التفكير؟ وهو يبدو هنا فارضا للعلامة، فإذا كان حقا أن المعنى يكون بحاجة لإشارة لكي يتجسد، فليس أقل صحة، أن هناك حاجة إلى قوة رمزية لجعل حقيقة صوتية ما تعمل مثل إشارة تشير إلى معنى. على الطفل أن يتواءم مع معنى كلمة أبي، وهو يتردد في امتدادها، لكنه يفهمها جيدا كدالة، وهذه القدرة، لا يختلقها الكلام إنما يقوم بافتراضها. من هنا تأتي سمة الصعوبة في الأسئلة المنطقية حول الأسبقية السببية؛ من يأتي أولا التفكير أم الكلام؟ أي أننا نواجه هنا ذات اللغز المحير المتمثل في أسبقية البيضة أم الدجاجة، فأنت كي تفكر عليك أن تتكلم، ولكي تتكلم عليك أن تفكر. وقد واجه روسو العقل بهذه الصعوبة في كتابه (خطاب في أصل التفاوت) حيث صاغ هذه المعضلة كالآتي: (إذا كان الناس في حاجة للكلام لكي يتعلموا التفكير، فهم بحاجة أكثر لمزيد من المعرفة في التفكير لكي يتمكنوا من فن الكلام.).
يُعتقد عموما أن التفكير متعالٍ وسابق للغة، التي لا تتعدى عن كونها وسيلة موجهة لإيصال تفكير داخلي يمتلك نفسه كمفهوم خالص. في كتاب ديكارت (الخطاب حول المنهج) نجد هذه الفكرة التي توضح السمة التبادلية الخارجية بين الفكر واللغة. (أولئك الذين لديهم رجاحة في التفكير، والذين يستوعبون أفكارهم بشكل جيد من أجل جعلها واضحة ومفهومة، تكون لديهم قابلية أفضل على الإقناع بما يعرضونه، رغم أنهم ليسوا بفصاحة البريطانيين، ولم يتعلموا أبدا فن البلاغة)، يتبادر لنا أنّه يقول إن التفكير لايبالي باللغة، لكن القراءة الدقيقة للنص تظهر لنا أن ديكارت يضع أهمية في تفكيره لتوضيح الفكرة من أجل إيصالها، أكثر من العلاقات بين اللغة والتفكير. لكن ما هي عملية التفكير بشكل واضح ودقيق إن لم تكن (حوار الفكر مع نفسه) كما يقول افلاطون، أي كلام في الداخل، يستحوذ على معناه من خلال جهد الدقة المفاهيميَّة.
وهكذا، من الصحيح تماما أننا غالباً ما نصادف لحظات نبحث فيها عن الكلمات قبل التحدث، ولا نجد دائما الكلمة المناسبة، لكن هذا لا يعني أن التفكير يتواجد خارج الكلمات، فعند إلقاء نظرة فاحصة، نجد أننا نبحث عن الكلمات بمساعدة كلمات أخرى، ونحن لن نتوصل لما نريد قوله حتى نتحدث بها. نقتبس هنا النص التالي من كتاب فلسفة الروح لهيجل (نحن نفكر بواسطة الكلمات، وإدراكنا لأفكارنا المحددة والحقيقة لا يأتي قبل أن نكسبها شكلها المحسوس ونميزها عن باطنيتها، ومن ثمَّ نضعها في شكل خارجي، يحتوي مرة أخرى على طبيعة النشاط الأكثر رفعة في دواخلنا. إنَّ الصوت الذي نلفظه بوضوح، أي الكلمة، هي وحدها التي تقدم لنا وجودا يكون فيه الخارج والداخل متحدين بشكل وثيق، ولذلك فإنّ الرغبة في التفكير من دون كلمات هي محاولة لا معنى لها، ومن العبث اعتبار هذه الضرورة التي تربط التفكير بالكلمة على أنّها عيب و خلل في التفكير. في العادة نعتقد أنَّ النشاط الأكثر سمواً في الداخل، لا يمكن وصفه بكلمات، لكن هذا الرأي هو سطحي ولا أساس له من الصحة؛ لأن ما لا يوصف في الواقع هو فكر غامض، ما زال في حلة تخمر، ولن يكتسب قدراً من الوضوح إلا بوجود الكلمة، فهي التي تعطيه وجوده الأسمى والأكثر صدقاً)، ينتقد هيجل هنا الوهم المزدوج المتمثل في التفكير المحض والتعالي الفائق الوصف على كل ما يمكن قوله. لا يوجد فكر خارج اللغة، ولا فكر خارج الدلالات والروابط الدالة، الفكر النقي هو خرافة وزخم مشوّش، طاقة غامضة غير محددة، خالية من المحتوى. يمكننا بالطبع، التمييز بين الباطنيّة الروحيّة أو الذاتيّة وبين السياق الخارجي والموضوعي للكلمات، مما يستوجب تعلم الرمز المعجمي والنحويّة الذي يكون مناسباً لجميع أفراد المجتمع. لكن هذا ليس حجة للاعتقاد بوجود حقيقة للتفكير تسبق تجسده بالكلمات، لأنَّ الكلمة وحدها هي التي تسمح له بالخروج من عدم الوضوح والارتباك. وبعيداً عن كون اللفظ يمثل خيانة للتفكير، يسمح هذا الأخير لهذا التجسد أن يحدث له. ومن ثم، كل ما هو متعذر على الوصف والقول هو في الواقع، ما زال مشوشا، ولم يتم التفكير فيه بوضوح، وهو تفكير يبحث عن نفسه ولم يجدها بعد. والقصد الدال لا يتحول من تفكير داخلي إلى خارجي عبر مفردات الكلام، بل ينتقل من خلال تقديرات تقريبية متتالية من صياغة داخلية غير دقيقة إلى أخرى أكثر دقة، في جدلية لا نهاية لها، تمثل وجود وديمومة الكلام والتفكير. فهو ينتقل من الظلام إلى النور، ويأخذ شكله واتساقه وحقيقته بواسطة الكلمات.