الرسم والشعر جيران

منصة 2023/09/11
...

 د. أحمد جارالله ياسين  
في معرضه الشخصي العاشر الموسوم بـ (شَعريّة ميثولوجيا لونية) يقدم الفنان الدكتور أحمد دخيل النقيب مجموعة كبيرة من الأعمال التي تميزت بالجمع بين اللوحة والشعر في فضاء تشكيلي واحد، تتجاور فيه الخطوط والالوان والأشكال مع الكلمات الشعريَّة المنتقاة - حسب ذوق الفنان ورؤاه - من نصوص للشعراء العراقيين والعرب، ومن يقف أمام هذه اللوحات يجد انها اهتمت بانتقاء المفردات ذات البعد البصري في الدلالة من النص، كونها الأقرب إلى المشترك الإدراكي مع فن الرسم من جهة أن الأشياء المرئية هي موطن جذب عين الرسام أيضا قبل جذب أي حاسة أخرى لديه وذلك ليس غريبا على فنين هما (الشعر والرسم) وهما نبتتان من ساق واحدة كما يقال.    
وقد حاول الفنان ترجمة تلك الأبعاد البصرية في الكلمات بهيئة الأشكال الدالة عليها كالثور المجنح والنخيل والنهر والبوابات الموصلية القديمة والنوافذ والمرأة والغراب والنوارس والجسر العتيق...الخ، حتى تحولت اللوحات إلى معجم صوري للنصوص التي استضافتها على القماش. في حين اتخذت لوحات أخرى مسارا مختلفا - وإن كان على مستوى أقل -عندما حاولت تأويل المفردات الشعرية تشكيليا وعلى سبيل المثال حوَّلت استعاريا جناح الحمامة إلى شريط سينمائي أبيض طويل يجاور نصا يتحدث عن السلام بوصفه فيلما غربيا مزيفا للشاعر غازي القصيبي، بينما حولت فكرة تكرار الوعود بالسلام إلى رحى تطحن الحمامة نفسها بين حجرتيها القاسيتين، وهنا تغدو اللوحة تأويلا للنص الذي هو في الأصل بوصفه فنا (تأويل للواقع) حسب تعبير هربرت ريد، وبمعنى آخر باتت اللوحة قراءة تشكيلية للشعر الذي يمثل القراءة الشعرية الأولى للواقع، وهنا تتجاوز اللوحة دورها في الترجمة البصرية الحرفية  للشعر لتكون ترجمة إبداعية له تناظره  وتنافسه إبداعيا لا تتبعه. حاول الفنان أيضا أن يمنح السطور الشعرية دورا تشكيليا في اللوحات، أولا باهتمامه ببعدها الجمالي الموجود عادة في رسم حروف الكلمات بطريقة رقيقة متموجة تستجيب لها مرونة الحرف العربي، وثانيا بجعل السطور أشبه بعنصر تشكيلي أو بشكل من أشكال اللوحة عندما تملأ فراغاتها وزواياها، أو تؤطر أشكالها الأخرى خطيّا بما يشبه صناعة إطار أسود رقيق الحدود حولها يسبق الإطار الخارجي ويضم بين جنباته أشكال اللوحة كلها . بينما وظف اللون للتعبير عن الجو الشعوري للنص، ولأن اللوحة تستلهم الشعر فن الشعور الأول ، فقد طغت على بعض اللوحات الألوان النارية الساخنة المعبرة عن الحب والبهجة والفرح والذكريات. بينما انتشرت الألوان الرمادية مع النصوص الحزينة لاسيما المعبرة عن خراب مدينة الموصل بسبب احتلالها من الإرهابيين وما رافق ذلك من حرب مدمرة.
 إن مشروع هذه اللوحات أو فكرتها ينتمي إلى اتجاه الحداثة الذي لم يعد يهتمُّ بالحدود بين الأجناس الأدبية والفنية ويسمح بالتّداخل بينها ويعدّه فضيلة فنيّة، بعد أن كان الالتزام بالحدود والفواصل بين الأجناس هو الفضيلة وفق نظرية الأجناس الكلاسيكية والخروج عنه يعدّ
عيباً. لكنّ الالتزام بالحدود لم يعد ممكناً في ظّل العولمة والتداخل الذي يسود العالم ما بين الثقافات والشعوب والفنون جميعا مادام القصد من ذلك إيجاد صيغ تعبيرية جديدة ولو على سبيل التجريب. علما أن التداخل بين الشّعر والرّسم ليس سهلاً على مستوى طرفي الرِّسالة الفنان (المرسِل) والمتلقي (المرسَل إليه)، لأنَّه يحتاج منهما ثقافة مزدوجة في الفنين وأسرارهما الدقيقة على مستوى التعبير والتّقانات والوسائل، كما أنه سينتج على مستوى (الرسالة: اللوحة/ القصيدة) عملاً مركباً معقداً، فوسيلة اللوحة هي الألوان والخطوط والظلال والأشكال والمنظور و كلها وسائل مكانية، في حين أن وسيلة القصيدة هي اللغة وهي وسيلة زمنية ، من هنا فإن الجمع بينهما مغامرة تجريبية ليست سهلة، يجعل من اللوحات نصوصا موازية للقصيدة، وقد غامر بذلك الدكتور أحمد دخيل النقيب ونجح في تحريك الجو بين الفنين فاستقطب معرضه الفنانين والشعراء وجمهورا كبيرا من المهتمين بالفنون.
وقد أُقيمت بعد المعرض جلسة نقدية حول اللوحات تحدث فيها الفنان د. أحمد دخيل عن تجربته، والفنان بيات مرعي، والناقد والشاعر د. أحمد جارالله ياسين، فضلا عن مداخلات قيمة من جمهور الحاضرين.