الدولة العسكريَّة تزداد قوة في المكسيك

بانوراما 2023/09/12
...

 جون جاكسون
 ترجمة: شيماء ميران


أثناء حملته الانتخابية الرئاسية، أقسم الرئيس المكسيكي "اندريس مانويل لوبيس أوبرادور" بأنه سيعيد "الجنود الى ثكناتهم العسكرية"، لكن بدلا من ذلك تشهد المكسيك اليوم في ظل رئاسته تزايد قوة الجيش وتوسعها الى مجالات وميادين غير متوقعة.
لم يحاول الرئيس "لوبيس اوبرادور" تبديل الشرطة الفيدرالية المكسيكية بحرس وطني جديد فقط، بل أعطى للجيش مسؤولية مشاريع البنى التحتية الكبرى مثل بناء مطار جديد، وتوزيع اللقاحات والكتب المدرسية وإزالة الاعشاب البحرية من الشواطئ في المنتجعات الساحلية. فضلا عن ذلك، فإن المؤسسة العسكرية حاليا مكلفة بمهمة مراقبة حركة الهجرة على امتداد حدود المكسيك جميعها.

غير أن هذه المسؤوليات الجديدة لها تكلفة. فبحسب قسم الابحاث في شركة "ستاتيست"، انفقت الحكومة المكسيكية خلال العام 2018، عند تولي لوبيس اوبرادور الرئاسة، ستة مليارات دولار في القطاع العسكري، وتضخم هذا المبلغ ليصل إلى تسعة مليارات في العام 2020، قبل أن يتراجع في العام الماضي الى ثمانية مليارات دولار تقريبا.
في ظل الظروف الحالية، وإلى جانب التداعيات المختلفة لدور الجيش المكسيكي المتزايد، تثير هذه السابقة التي أرساها الرئيس لوبيس اوبرادور قلق الكثير من الخبراء. إذ يقول "خوسيه ميغيل فيفانكو"، كبير مساعدي حقوق الإنسان في مجلس العلاقات الخارجية: "ان أحد أخطر الانتكاسات للديمقراطية المكسيكية بعد نهاية عهد الرئيس لوبيس اوبرادور ستكون مسألة عسكرة المجتمع المكسيكي".

عدم الالتزام بالقسم
لكن كيف تغيّر لوبي أوبرادور من كونه مرشحا رئاسيا وعد "بإعادة الجنود الى ثكناتهم  العسكرية"، الى رئيس أوكل للجنود أدوارا بعيدة عن ثكناتهم  وبكل ثقة بالمهمات الجديدة؟.
يقول فيفانكو: "ان ما يفسر هذا الارتباط الوثيق بالجيش، هو أن الرئيس لوبيس اوبرادور يفكر منذ اليوم الاول بما سيخلفه من بعده. ومن المعتقد أنه أدرك مبكرا، بأن التحالف الستراتيجي مع الجيش هو افضل طريقة لتحقيق جزء من نتائج إدارته، إذ يعتقد ان الجيش قد يكون أداة سلطة بالنسبة له، ووسيلة لضمان تنفيذ بعض مشاريعه".
وعلى الرغم من تنامي المؤسسة العسكرية المكسيكية إلى مستويات غير مسبوقة في عهد الرئيس لوبيس اوبرادور، لكن هذا الامر موجود منذ عهود الرئاسات السابقة له. ويوضح" دانييل رايسبيك"، محلل سياسات أميركا اللاتينية في مركز الحرية والازدهار العالمي التابع لمعهد كاتو، إن الرئيس الاسبق "فيليبي كالديرون" كان اول من منح القوات المسلحة دفعة كبيرة من المسؤولية المتزايدة أثناء فترته الرئاسية بين سنوات (2006 - 2012).
يقول "رايسبيك" في حديثه مع مجلة (نيوزويك): "إن الرئيس كالديرون أخرج قوات الجيش من ثكناتها لغرض محاربة عصابات المخدرات، لأن ما تجنيه هذه الكارتلات كان كبير جدا لدرجة انها قد تصبح يوما قادرة على تسليح نفسها، وإلى درجة من الخطورة تبلغ حد الاحتراف تقريبا ويخشى منها في النهاية أن تتمكن من من تهديد الدولة ذاتها". ويضيف رايبسبيك بأن محاربة قوات الكارتلات اثناء رئاسة "كالديرون" كان مبررا لرفع مستوى القوات المسلحة، لأن من الطبيعي أن تكون قوات الشرطة المدنية غير قادرة على التعامل مع مثل هذه القوات وحجمها التلقيدي".

الاستيلاء على العمل المدني
لكن لم يسبق  الرئيس لوبيس اوبرادور أحد بما فعله، فقد جعل الجيش هو المسؤول عن تولي المشاريع التي كان من المفترض أن تخصص بالعادة للقوى المدنية العاملة، إذ لم يقتصر الامر على تكليف الجيش خلال العام الماضي ببناء مطار "فيليبي أنجيليس" الدولي خارج مدينة مكسيكو، والذي سرعان ما سيصبح مطار "بينيتو خواريز" الدولي وهو اكثر مطارات اميركا اللاتينية ازدحاما، بل سيكون تحت سيطرة القوات المسلحة الكسيكية بالكامل.
وفي وقت سابق من العام الحالي، منح الرئيس لوبيس اوبرادور للجيش صلاحية الاشراف القانوني لبناء وتشغيل قطار "مايا"، وهو مشروع سياحي ضخم تقدر تكلفته عشرين مليار دولار تقريبا، وأعلن عنه بأنه مسألة تتعلق بالامن القومي. كما تمت عسكرة الشرطة ايضا، فبعد فترة من توليه المنصب قام  الرئيس لوبيس اوبرادور بحلّ الشرطة الفيدرالية وانشاء قوة جديدة للحرس الوطني تحت قيادة الجيش المكسيكي، وقضت المحكمة العليا المكسيكية في نيسان الماضي إن عدم خضوع الحرس الوطني المكسيكي للسيطرة المدنية يعد غير دستوريا. ومع ذلك لم يلتزم الرئيس لوبيس اوبرادور بقرارها الذي ينص على نقل سلطة القوة إلى القطاع
المدني.

الجيش المكسيكي أقوى بكثير
في منتصف اذار الماضي، قام أفراد البحرية المكسيكية والحرس الوطني بدوريات في منطقة الشاطئ السياحي في كانكون بالمكسيك، اضافة لذلك تم تكليف القوات المسلحة المكسيكية بازالة الأعشاب البحرية الضارة من الشواطئ في المنتجعات الفندقية.
يوضح "د. كريغ ديري"، وهو مسؤول سابق في البنتاغون والاستاذ في جامعة الدفاع الوطني، انه على الرغم من مخاوف منظمات حقوق الانسان فإن معظم المدنيين المكسيكيين لا يشعرون بقلق شديد حيال الوجود العسكري المتزايد في مختلف حقول الخدمات المدنية العامة.
ويعزو ذلك الى ما يحظى به الجيش من احترام كبير بين افراد الشعب المكسيكي، وسيكون رأي معظم المواطنين عن تولي إدارة الجيش لأدوار جديدة بالسؤال التالي: "لماذا لا نعطها للجيش؟ فكل هؤلاء المسؤولين فاسدون لم يقوموا بعمل جيد".
ومع ذلك، يؤكد "ديري" إنه يجب على المواطنين المكسيك والاميركان أن ينظروا الى ما قام الرئيس لوبيس اوبرادور على انه مشكلة.
ويقول :"ان العلاقات بين المؤسسة العسكرية ومختلف مؤسسات الدولة الأخرى، على الأقل في المجتمعات الديمقراطية، مبنية على فكرة ان السيطرة والقوة تكون من قبل القوى المدنية على القوات المسلحة"، والمدني المكسيكي الوحيد الذي يتمتع بأعلى درجة من السلطة هو الرئيس نفسه".
واشار ديري إلى أن مؤسسات الدولة المكسيكية لم تعين أمناء سياسيين للفروع العسكرية الذين تصادق عليهم السلطة التشريعية.
كما يبين: "إنه أمر عسكري  مئة بالمئة، فإذا كنت من أصحاب نظرية المؤامرة، فقد تعتقد أن أعضاء قيادة الجيش قاموا بما يستطيع لغرض تضليل تفكير الرئيس لوبيس اوبرادور من أجل أن يمنحهم المزيد من القوة والسلطة".
توضح "ستيفاني بروير"، مديرة مكتب واشنطن لاميركا اللاتينية لمنظمة حقوق الإنسان في المكسيك، ان الحجة في تقوية هذا الرأي هي عدم ممانعة الكثير من المكسيكيين من قيام الجيش ببناء المطارات أو توزيع اللقاحات.
وتؤكد ستيفاني بروير لمجلة نيوزويك إن احد جوانب الدليل على ذلك  الرأي هو أن الرئيس لوبيس اوبرادور مقتنع تماما بأن الجيش يتمتع بالكفاءة، ويذهب إلى فكرة عدم تمتع أفراد الجيش "بحقوق العمل كعمال مدنيين"،  فضلا عن خوفهم من العقوبة الجنائية في حال عدم تنفيذ الاوامر الصادرة إليهم.
مضيفة: "إن جزءا آخر من هذا الاعتقاد لدى الرئيس لوبيس اوبرادور هو تفكيره بأن مؤسسة الجيش هيأة نزيهة وغير فاسدة، في حين يتم تقديم بقية المؤسسات المدنية على أنها فاسدة، وبطبيعة الحال، فهو انقسام غير دقيق غي الرأي إلى حد التوقف عن مناقشته".

الآثار المترتبة على حقوق الإنسان
بحسب "بروير" فمن القضايا الرئيسة المتعلقة بالادوار الجديدة الموكلة للجيش، هي أن هذه المؤسسة ذات تركيب وهيكلية فيدرالية وكانت قد عرفت سابقا بأنها الاقل شفافية؛ ومن المعروف أنها متورطة بارتكاب العديد من الانتهاكات على مر التاريخ وأنها افلتت من العقاب".
ومن منظور حقوق الإنسان، اثار نشر 30 ألف جندي على حدود المكسيك لمراقبة الهجرة قلق "بروير"، وأوضحت أنه تم الإبلاغ عن قيام أفراد الجيش ببعض حالات الاساءة للمهاجرين، منها التعذيب وإطلاق
النار.
تقول: إن الجيش هو قوة تم تدريبها للدفاع عن أراضي الدولة ضد الغزاة الاعداء. لكن عندما تنشر هؤلاء الافراد لكي يكونوا على تماس مع المسؤولين عن رعاية أسر المهاجرين، فإن مخاطر سوء المعاملة تكون واضحة للغاية، وقد رأيناها بوضوح خلال الفترة
الماضية".  

الدور الأميركي
قد يكون للولايات المتحدة الاميركية تاثيرا على القوة المتزايدة للجيش المكسيكي، من خلال الضغط على جارتها الجنوبية لمنع وصول المخدرات عبر الحدود المشتركة بين البلدين. إذ قدم الرئيس الأسبق "جورج دبليو بوش" قبل أن تقترب فترة نهاية رئاسته للبلاد، ووفق مبادرة ميريدا طائرات ومعدات تدريب للمكسيك لمحاربة عصابات المخدرات في البلاد.
من الجانب الظاهري، يمكن القول بأن إدارة الرئيس جو بايدن منذ العام 2021 قد خففت الموقف من خلال تقديم ما يسمى "إطار العمل المئوي الثاني بين الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك للأمن والصحة العامة والمجتمعات الآمنة"، وتعد خطة لمعالجة مشكلة المخدرات في المكسيك من منظور صحي وليس  من خلال الوسائل العسكرية.
تقول بروير: "على الرغم من تقديم إطار الذكرى المئوية الثانية على أنه نقلة نوعية حقيقية، فإن علاقة الولايات المتحدة مع المكسيك لم تركز بالضرورة على ذلك، ذلك لأنه من أولويات أميركا وقف تهريب الفنتانيل والحد من عبور الحدود. وإذا نظرنا إلى هاتين الاولويتين فإن الجيش المكسيكي يبذل مجهودا كبيرا في ذلك. لذا، هناك خطر جليّ من قيام الولايات المتحدة على الأقل بتعزيز نشر القوات العسكرية وتكليفها بمهام الشرطة، أو قد ترى أن لديها أسبابا لعدم معارضتها، بالرغم من إدراكها أنه لا ينبغي تشجيع سياسة العسكرة في المكسيك".

تأثيرات بعيدة المدى
يعبر الخبراء عن قلقهم بشأن سياسة عسكرة المكسيك، إنطلاقا من كون هذه الخطوة من المرجح أن تصبح أكثر تعقيدا عند انتهاء ولاية الرئيس لوبيس اوبرادور الرئاسية بحلول العام 2024. فاذا ما قرر الرئيس المقبل رفض حالة الوجود العسكري الواضح في شوارع البلاد، فربما سيواجه المسؤولون في الإدارة الجديدة مقاومة المسؤولين العسكريين المندفعين نحو مزيد من طموحات السلطة وامتيازاتها.
يقول "رايسبيك": "إنها مشكلة يسهُل خلقها أكثر بكثير من إمكانية حلّها. ففي حال تقليص امتيازات أو مناطق نفوذ الجيش سيتسبب ذلك بمشكلات خطيرة".
وعلى هذا المبدأ يرى "ديري" أن مؤسسة الجيش المكسيكي، تم منحها الكثير من السلطة والنفوذ ما لا يمتلكها غيره ببساطة. إذ ليس من المفترض أن توكل للقيادة العسكرية مثل هذه المهام، فالقائد العسكري المفترض منه تنفيذ طلب الرئيس الجديد بالتخلي عن هذه السلطة والنفوذ سيرد عليه بالقول: "لا أنت ولا أي جيش سيجعلني أفعل ذلك".
كما اعرب "فيفانكو" عن الرأي ذاته بقوله: "كيف ستُعيد المارد الى الزجاجة مرة أخرى؟، وكيف ستضمن عدم مشاركة الجيش بالعمل التجاري بعد نهاية ولاية الرئيس لوبيس اوبرادور؟ سيكون ذلك صعبا للغاية".

عن مجلة نيوز ويك