د.عواطف نعيم
المسرح ومنذ بداياته التي تمتد في عمق التكوين البشري إلى ما يزيد عن الثلاثة آلاف سنة لم يتوقف ولم يخفت صوته وكان دائم الحضور في مسيرة المبدعين والباحثين والمنظرين المنشغلين به ولأجله، ولطالما أثار الجدل وألزم مريديه والفاعلين تحت ظل فضاءاته بعقد الندوات واقامة التجمعات والدعوة إلى الملتقيات لمناقشة عناصره وأسسه وأهداف وجوده وتوجهات الباحثين في عوالمه، والمسرح الذي نهض به وقدمه للعالم شعب الاغريق وعدوه حين اجتهدوا من أجل الترويج والتعريف به معلما من معالم الفكر الديمقراطي ومنبرا للبوح والجدل والتأثير في المجتمع الإنساني.
وهو طوال عمره كان يتجدد وينضج ويرسخ وجوده ويعمق جذوره في المجتمعات المختلفة في الثقافة والمعرفة والطقوس الدينية، ذلك الفضاء الذي ألهب مخيلتهم وشحذ هممهم وفجّر ينبوع الوعي المقدس في ذواتهم صار لديهم تقليد ثابت ورقم صعب وثقل ثقافي يحفز مداركهم ويشحن مشاعرهم ليصيغوا من تلك العلامات عروضا مسرحية تتمثل بلون أمزجتهم وعبق تجربتهم وأصالة اشتغالهم. ولانه ابن التنوع والانفتاح ولأنه وليد الحرية التي لا تعرف الخوف أو تنكص عند الخطر فقد كان لهم منبر ومختبر ومحترف يبتكرون في فضاءاته ويجتهدون داخل صومعته لذا جاءت المدارس في تنوعها واشتغالاتها متعددة ومختلفة داخل عوالم المسرح التي اكتسبت هي الاخرى بدورها أشكالا مختلفة لمعمار تكويناتها وتشكيلات فضاءاتها ما بين مسرح علبة ومسرح مفتوح ومسرح دائري ومسارح تتخذ من الأماكن حاضنة لها في الشارع أو الحظيرة أو الكنيسة أو البيوتات الأثرية وهذا التنوع في حاضنات المسرح لم يأت اعتباطا، بل جاء على وفق قصدية في الرؤى والتصوير الدرامي لدى من جعلوا من المسرح قبلتهم ومدارس تعليمهم.
ومن هذه النظرة المنفتحة والواعية عمد هؤلاء المبدعون إلى البحث في عوالم المسرح ليس في مجال الفضاء الذي يحتضن العروض ويضعها أمام أنظار المتلقين بل في مجالات المسرح الابداعية كافة في بنية النص وموضوعاته وآلية الصياغة في تأسيس الفكرة وبناء الحوارونسج الاحداث وفي طريقة العرض على مستوى الاداء والتوصيل ما بين مرسل يجيد العزف على أوتار المشاعر والاحاسيس وبين متلق يتفاعل ويتأثر، ثم تطور مفهوم الاداء لدى مصلّحي المسرح والمعلمين فيه ما بين التقمص حد التماهي والاداء المحايد وكسر الوهم والشرطي المحسوب والتعبيري الدال والكوريكرافي الراقص، هي المدارس في تنوعها نضجت وتسيّدت وتحولت إلى طرق وأساليب لدى العديد من مسرحيي العالم وكما تعددت طرق الاداء فقد شهد فضاء العرض هو الاخر توجها وتنوعا تضافرت فيه مجموعة من الانساق شكل الضوء ابرز ملامحها في خلق منظومة تتشكل على المسرح عبر صور تعبيرية تضمر معانيها وتنحت دلالاتها، وتوسع وكبر وتعملق المصطلح والذي هو نتاج البحث والابتكار والمغامرة في عوالم المسرح تحت عنوان (التجريب)حتى غدا سمة ووسيلة للبعض كي يشتغل على عروض مسرحية يلبسها بثوب غير ثوبها أو يصبغها بلون هو خلاف لونها كي يجرب ويخرج عن المألوف والمعتاد ويكسر المتوقع في التجربة
المسرحية.
وهذا التوجه قد يكون مقبولا وملفتا حين يكون التجريب منبعثا من فلسفة جمالية وفكرية مقنعة ومتبناة بوعي معرفي له فرضياته وله خصوصيته، وبالتالي ينعكس على المنجز المقدم ايجابا ونضجا وحضورا تفاعليا، لكن في اضطراب المفاهيم وفي ولوج عالم التهويمات وفي التقليد والاستنساخ وفي الانفتاح على توظيف التكنولوجبا واغراق العرض المسرحي بفوضية استخداماتها أصبح التجريب مصدر حذر وترددا لدى العديد من المعلمين والمشتغلين والقائمين على المسرح. ففي ظل هذه الفوضى التي لا تحسن العوم في عالم المسرح لانها لا تدرك أهمية التعلم والتبصر والفهم قبل الولوج الجاهل في عوالم التجريب والابتكار تكون النتائج مقلقة! فالبعض من هؤلاء الذين يركبون موجة التجريب من دون وعي ودراسة يغرقون في متاهة يضيعون فيها ويجعلون المتلقي في حالة جفوة وابتعاد عن الخشبة وما تحمله من عروض مسرحية محدودة الرؤى بليدة التأثيرعقيمة النتائج، والبعض من الفنانين يتعالون على المتلقين ويعدون عدم التفاعل ذاك، والعزوف عن عروضهم سببه كمال أعمالهم التي تفوق قدرة المتلقي على التجاوب! وللتجريب عالم واسع ومفتوح على كل الاحتمالات، لذا ولاجل التعمق في الامر لنا وقفة أخرى.
كاتبة ومخرجة مسرحية