شورجة ثقافيَّة

ثقافة شعبية 2023/09/14
...

كاظم غيلان 



بينما الحصار يشتد أواخر تسعينيات قرننا الماضي ونداءات استغاثتنا تطرق أبواب السماء أصبت بتشمع الكبد اللعين، أخذ الاصفرار مأخذه في عيني الحالمتين والمتشبثتين بحسناوات كما النهر يتدفقن كل صباح، ليخترقن الباب المعظم حتى مدينة الطب وكليتها ومعاهدها.

تناهت أخبار أزمتي الصحية لبضعة أصدقاء يقيمون في المنافي، فبعث لي أحدهم بدافع الصداقة والغيرة مبلغا يعينني على تجاوزها علاجيا.

أطل ناقل الأمانة الكبيرة وقتها مشترطا مصاحبته إلى حيث سوق (الشورجة)، ليشتري لي العسل(الأصلي)، فضلاً عن علاجات جانبية من إحدى الصيدليات. وراحت محاولاتي في استحصال المبلغ وترك حرية التصرف به علاجيا تذهب أدراج العواصف ولا أقول الرياح، إذ كان مصرا على تنفيذ (الوصية).

راح يشرح لي ما يجري في (الشورجة) من عمليات غش وتزوير ماركات واحتيال ونصب... الخ، ورحنا نناقش ظاهرة تجار الأزمات التي تبتلي بها الشعوب، ولم تكن ظاهرة تجار الحرب مع إيران بعيدة عنا، حتى وصلنا صديقه الذي يعرض بضاعة العسل (الأصلي). ولم يكتف حامل الأمانة الا بتناولي أكثر من (خاشوكة) عسل لربما تنقذ الكبد من صراعه مع التشمع. 

هذا التاجر حدثني بمرارة عما يجري في هذا السوق التجاري الذي يحتل الرقم واحد في أسواق التجارة العراقية وراح يمطرني بتحذيراته، فهناك عملة مزورة وعسل مزور وآخر معاد وأقمشة تحمل ماركات مزورة طباعيا.... الخ حتى أصبح رأسي(شورجة).

للثقافة (شورجة) كبيرة جدا وفيها كل ما متوفر في الشورجة الأولى، فمتعهد ثقافي واخر منتحل ويليه مزور. شورجة الثقافة ليست بجديدة ولربما متوفرة في بلدان أخرى، لكنها عراقيا اخذت بالاتساع في ظل الديمقراطية، حيث الكومبيوتر وآخر صيحات الميديا والجيوش الإلكترونية الباسلة الجاهزة بكامل أسلحة التسقيط والتشويه والرفع والحط والتشكيك.

في شورجة الثقافة محال لاستيراد وتصدير أشباه المتعلمين، ليكونوا شعراء وروائيين، وان لم يكونوا ف(نقاد) ماعليهم سوى (درخ) المصطلحات، وسرعان ما تتلقفهم فضائيات كثيرة يشغلها اشباههم من اعلاميي(الصدفة)، الذين لن يختلفوا عن أخوتهم (سياسيي الصدفة)، يتقدمهم قطيع من (محللين وخبراء نص ردن) يصدعون رؤوسنا بتوقعاتهم وتنبوءاتهم على طريقة (ابو علي الشيباني). في (شورجة) الثقافة كتبة رسائل (ماجستير ودكتوراه) يمنح اصحابها الفطاحل (درزن هويات)، يساعد إبرازها في الاحتيال على أصحاب النوايا الطيبة، ليفخروا بأن جليسهم (الدكتور)، لا يشق له غبار ولن توقفه الرياح وتسجد له صبايا (النثر) وشباب (التفعيلة). في شورجة الثقافة ساردون وساردات (يسردون سرد) بأعمال مكتوبة بأجور متباينة بالعملتين الوطنية والأجنبية.

في شورجة الثقافة إعلاميون (يشكون شك) أو(يشكون الحلك) يروّجون ويتبنون أشباها لهم من مخلوقات زماننا، فإن كان مغنيا مبتدئا يكون (المطرب الكبير)، وان كان حديث عهد في المسرح بدور تمثيل ثانوي فهو خليفة شكسبير.

وهكذا (اندهرنا ونوخذنا) على حد استغاثة الصديق كاظم النصار.

أسألك ربي يامن اشفيتني من تشمع الكبد أن تبعدني عن تشمع العقل.