الجناح الشمالي لحلف الناتو

بانوراما 2023/09/16
...

  الكسندر ب. غاري
  ترجمة: مي اسماعيل

يتخلف أعضاء حلف الناتو الرئيسيون عن القيام بالتزاماتهم في مواجهة مصلحة موسكو التي لا تحيد بمناطق أعالي الشمال الأوروبي. وبينما كشف الغزو الروسي لأوكرانيا عن نقاط ضعف كبيرة في القدرة العسكريّة لموسكو؛ فقد سلط أيضا ضوءًا قاتمًا على جوانب الموقف الستراتيجي لحلف شمال الأطلسي. والآن يقع على عاتق الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو اتخاذ إجراءاتٍ استباقيّة لسدِّ تلك الثغرات قبل أن يستغلها نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
عززت اجتماعات للناتو عقدت مؤخرًا في فنلندا والسويد قدرات التحالف في مجال الكفاءات الحسّاسة؛ مثل- الحرب تحت سطح البحر واستخبارات الإشارات، والمدفعيَّة في منطقة بحر البلطيق. ولكن لا تزال هناك أوجه قصور مثيرة للقلق على طول الجناح الشمالي لحلف شمال الأطلسي؛ خاصة بالمنطقة القطبيَّة وشبه القطبيَّة؛ تكشف عن إخفاقات كبيرة لدى العديد من أعضاء التحالف الرئيسيين عند الوفاء بالتزاماتهم في مواجهة مصالح موسكو التي لا تضعف بمناطق أقصى الشمال. نجحت روسيا باستغلال عدة عوامل للحصول على مساحة للمناورة في المنطقة؛ فهناك عدة جزر بالمناطق القطبيَّة وشبه القطبيَّة ضمن علاقات تقاسم السلطة التي تترك السيطرة على الدفاع الوطني لكيان أكبر (ومنها: سفالبارد- النرويج، وغرين لاند وجزر فارو- الدنمارك) بينما تسمح للحكومات المحليَّة بدرجة عالية من الحكم الذاتي. وفي كلِّ حالة، وسّعت موسكو نفوذها من دون مقاومة تذكر من جانب أوسلو أو كوبنهاغن.
في سفالبارد (عند منتصف المسافة بين النرويج والقطب الشمالي) استخدمت روسيا غموض معاهدة 1920 (التي تحد من قدرة النرويج السياديَّة على الانخراط في أنشطة الدفاع التقليديَّة بالجزيرة) لتعزيز النفوذ الاقتصادي والسياسي لموسكو. تحافظ روسيا على وجود كبير في مجال التعدين بسفالبارد، وتصر على أن أوسلو لا تستطيع فرض عقوبات عالمية على شحناتها إلى المستوطنات الروسية هناك. كما سمحت ترجمة النرويج لالتزاماتها وفق المعاهدة بنمو الوجودين الروسي والصيني على جزيرة ذات أهمية استراتيجية وتحوي موارد طبيعية وفيرة؛ منها الفحم والزنك والنحاس والفوسفات. ورغم تأكيد المعاهدة عن «السيادة المطلقة» للنرويج على الجزيرة؛ تنظر أوسلو إلى الحظر الذي تفرضه المعاهدة على استخدام سفالبارد «لأغراض حربية» باعتباره تقييدا شديدا لتلك السيادة. ولكن يمكن الجدال انه؛ ومن خلال الحفاظ على سيادتها والتزاماتها ضمن حلف شمال الأطلسي؛ فإنَّ لأوسلو التزام بضمان الامتثال للقانون الدولي على سفالبارد؛ وبضمنه إنفاذ العقوبات.

جزر مستقلة.. ولكن
بقيت جزر فارو (التي تقع مسؤولية الدفاع عنها على عاتق الدنمارك) تستضيف العديد من سفن الصيد الروسيَّة طوال الصراع في أوكرانيا؛ بموجب معاهدة بين روسيا وجزر فارو تعود إلى السبعينيات. وسبق إتهام سفن روسية مماثلة (وبشكل موثوق) بالتجسس وحتى التخريب؛ بما في ذلك الكابلات البحريّة تحت بحر الشمال. وتركت عدم قدرة كوبنهاغن على التدخل في الأمر بفاعلية شركائها في الجناح الشمالي من حلف الناتو عرضة للتكتيكات الروسية غير المتكافئة. كما احتوت الجهود الأخيرة التي بذلتها جزر فارو لتقييد سفن الصيد الروسية في مياه الجزر على ثغرات كبيرة تسمح للروس بالاحتفاظ بإمكانية الوصول إليها. وإذ يسمح قانون السياسة الخارجية لعام 2005 لجزر فارو باستقلالية كبيرة في الشؤون الخارجية المتعلقة بقضايا تقع ضمن اختصاص حكومتها فقط؛ فإنَّ مسألة بهذه الحساسيَّة لا بدَّ أن تشتمل على مداخلات إضافية من كوبنهاغن والتنسيق مع الأولويات الأكبر في السياسة الخارجية الدنماركية. أما غرينلاند فقد كانت منذ وقت طويل منطقة خلاف بين الدنمارك وكل من موسكو وبكين؛ تقديرًا لثروتها الكبيرة من الموارد الطبيعية وموقعها الستراتيجي على جانبي الممر المائي بين غرينلاند وأيسلندا والمملكة المتحدة، والمياه الحيوية التي تفصل بين شمال المحيط الأطلسي وبحر الشمال وبحر النرويج. وبينما يبدو تقدم غرينلاند نحو المزيد من الاستقلال الذاتي أمرا حتميا؛ فإنَّ كوبنهاغن تمتلك فرصة وضع حدود علاقات السياسة الخارجية للعقود المقبلة؛ عن طريق الإصرار على المزيد من التعاون في المجالات التي تؤثر بصورة مباشرة على التزاماتها تجاه حلف الناتو والصلاحيات الدفاعيّة. وإذ تتطور العلاقة بين غرينلاند والدنمارك؛ يتوجب على كوبنهاغن أن ترسم خطوطا واضحة في المجال الدولي؛ إذ باتت مصالحها الحيوية (ومصالح حلفائها في الناتو) على المحكِّ بشكل واضح.
يُعاني الجناح الشمالي لحلف الناتو أيضا من الإهمال الستراتيجي من جانب كندا في ظل حكومة رئيس وزرائها «جاستين ترودو»؛ التي تُنفق اليوم أكثر من واحد بالمئة من ناتجها القومي على الدفاع؛ وهو معدل يقل بشكل ملحوظ عن متطلبات الناتو (البالغة اثنين بالمئة). ورغم التحذيرات المستمرة من جانب العسكريّة الكنديّة أن كندا تفتقر الى قدرات التنافس مع موسكو في مساعي إعادة تسليح القطب الشمالي؛ فإنَّ أوتاوا انخرطت في مناقشات خيالية حول استراتيجية في المحيطين الهندي والهادئ تترك الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي عرضة للخطر في نصف الكرة الغربي.

تحديات الدفاع المشترك
تلك التحديات تتطلب حلولا جادة من التحالف؛ تبدأ من استراتيجية متكاملة لحلف شمال الأطلسي في القطب الشمالي تبني على الأعمال التي قام بها أعضاء منفردون في الحلف (على سبيل المثال: استراتيجية الولايات المتحدة الأخيرة في القطب الشمالي)؛ لتفعيل تقييم مشترك لتحديات الدفاع عن شمال الكرة الأرضية وتخصيص الموارد الكافية للقيام بذلك بفعالية. وهذا من المحتمل أن يتضمن قيادة ناتو قطبيّة موحدة لغرض توجيه الموارد بشكل مناسب عبر مجالات الحرب؛ وتنسيق التدريب المشترك على الحرب في القطب الشمالي، والاستفادة المناسبة من القدرات المقدمة إلى التحالف بعد انضمام هلسنكي وقريبًا ستوكهولم إليه؛ بما في ذلك مهارات كسر الجليد وحرب القطب الشمالي.
فضلا عن ذلك على الولايات المتحدة أن تعمل مع شركائها في كوبنهاغن وأوسلو وأوتاوا لتشجيع موقف أكثر تقدما في الشمال.. لا يجب (على الحلف) السماح لروسيا بالتحرك بصورة تقارب الافلات من العقاب في جزر فارو أو تهديد إتصالات الناتو الستراتيجية عبر نفوذها في غرينلاند أو سفالبارد. أما الصين؛ بمبادرتها لطريق الحرير القطبي؛ فهي مهتمة بعمق بزيادة تواجدها بالمنطقة وقد أعلنت نفسها (للعجب).. «دولة قريبة من القطب الشمالي». ويمكن للولايات المتحدة أن تعمل بشكل متعدد الأطراف (من خلال حلف شمال الأطلسي) وبشكل ثنائي مع الدنماركيين والنرويجيين والكنديين؛ لتوفير الدعم الاستخباراتي الكافي لمنع أوضاع قانونيّة غامضة من تهديد الجناح الشمالي للحلف.
موقع فورين بوليسي الأميركي