الأدب الأيديولوجي ومآلات التعبئة

منصة 2023/09/17
...

 حيدر علي الاسدي 


حتى وان كان العديد يرى أن (الأيدولوجيَّة) آفة أصابت الأدب، لكن هذا لا ينفي حقيقة كون الأيدولوجيَّة (كعلم الأفكار) تتصل هذه الأفكار بما ينتج من خطابات أدبية، فما الادب إلى مجموعة من الأفكار التي يرغب كاتبها بإيصالها إلى ( المتلقي/ الجمهور) بغض النظر عن جنس الادب هذا، سواء ازدان هذا الجنس بجانبه (الجمالي) أو اكتفى بالجوانب الفكرية وحسب، فما بين (تكامل الجمالي والفكري) تحضر الأفكار ضمن بنية الاجناس الأدبية بقوة لتشكل حالة اقتران بالأدب من خلال (المفاهيم الأيدولوجيَّة) التي يتضمنها جوهر العمل الادبي، سواء اتسمت هذه الكتابات بصبغتها الاجتماعية أو السياسية أو حتى على المستوى الفلسفي والثقافي، ان حضور الأفكار ليس عيباً شكلياً في الخطاب الأدبي، ولكن العيب أن تصدر تلك الأفكار بصورة (ساذجة) سطحية، يدرك من خلالها المتلقي والقارئ المنتج سهولة التقاط (التعبوية) في هذا الخطاب، وهو ما يحوله إلى خطاب ساذج هدفه (تعبوي) وهو ما يجعل حلقة (التواصل) مفقودة، وهي الأهم في لغة ارسال (الرسالة) إلى (المتلقي) المشكلة في الأدب الأيديولوجي أن يتحول إلى (إعلانات رخيصة) وتسويق مبتذل (لجهات ومؤسسات / واشخاص وحقب تاريخية/ ومغالطات ثقافية متنوعة) فيبدو وكأنه أداة تعبوية إزاء قضايا معينة يحاول (الكاتب) ان يمررها من خلال اشكال واجناس أدبية مختلفة ( قصة، رواية، شعر، مسرح، وغيرها) وذلك يبرز خلال الأزمات التي تمر بها البلدان والمجتمعات، في ظل افة الحروب مثلاً برز لنا (ادب الحرب) وكان جل هذا الادب لا يعبر عن (جراحات الناس الحقيقية) وانما (أداة تعبئة) وأداة (تلميع/ للانظمة الدكتاتورية الشمولية وصناع الحرب) ليس على مستوى الأنظمة الشمولية في بلدان العالم الثالث وحسب، بل حتى على مستوى الأنظمة الرأسمالية في الغرب، وخلال حقبة الحربين العالميتين، أن العديد من الكتاب العالمين كتبوا بدوافع ايدولوجية واضحة، لكن نبرة الانتقاد والتحريض والاصطفاف مع معاناة الناس كانت واضحة، وذلك يتضح في كتابات الألماني برتولد بريخت الذي كان منطلقه الايدولوجي في نقد الرأسمالية والطبقة البرجوازية هو ايمانه المطلق ( بشيوعيته) والنظام الشيوعي، فاصطف مع الطبقة البروليتارية من هذا المنطلق، وغيره العشرات من الكتاب المؤمنين بالفكر الشيوعي في أوربا وامريكا، خذ مثلا (الإيطالي داريو فو) والاشتراكي ( برنارد شو) أو حتى التركي ناظم حكمت وغيرهم العشرات، ولكن ما يحسب للكتاب هو الاصطفاف مع الجمهور ( الطبقات العمالية/ الفلاحين) والذين يعانون بوصفهم الأغلبية في المجتمعات المتأزمة، ليس هذا وحسب بل ينطبق الأمر على الكتاب المدافعين عن هوياتهم القومية والعرقية والعنصرية، كما في كتابات (كتاب ادب الزنوجة) ايمي سيزير وسونيكا واخرين، أو أولئك الذين ينصارون الواقعية الاشتراكية بدوافع ايدولوجية اشرت لها، أو حتى من يصطف مع الأدب الارشادي الديني والتوجيهي كما حصل في ظل سيطرة الكنيسة في حقبة ما على المسرح وبعض اشكال الادب، ان هكذا ادب ايدولوجي وان اتسم بطابعه (الانتمائي) الهادف (بما يتمثل من مرجعيات فكرية) الا انه قد يصل احياناً إلى الطابع الإنساني العام ان شمل الطبقات الأخرى (التي تختلف ايدولوجياً ) مع منتجي هذه الخطابات، وأن يخرج من (سذاجة الطرح ومطابقته الفوتوغرافية للواقع) لأن هنا الأدب يخرج من (جماليات التلقي) ويقع في فخاخ المباشرة والتقريرية المملة، ولكن اغلب النماذج العالمية تخلصت من هذه الأنماط لتقدم رؤى جمالية ضمن بنية خطابها الايدولوجي على العكس تماماً من الذين ملؤوا منتجهم الادبي بالأيدولوجيات في منظومة الثقافة العربية، والذين وقعوا ضحية للترويج للسلطة، ولبعض الايدولوجيات بصورة فاضحة وواضحة، مما انعكس سلبا على انتاج الخطاب والذي فقد صفة (التواصلية) مع الجمهور وبالتالي فقد أهمية وجوده (كرسالة) تسعى إلى النفاذ إلى اذهان المتلقي في محاولة (التأثير/ أو التغيير)، اما الانخراط في صفوف (الأيدولوجيَّة) وتطويعها ضمن أنظمة الشكل الادبي وبناه بالقفز على الحقائق أو تضليل المتلقي أو محاولة تجميل ما هو قبيح كما يحصل في أدب الحروب وتجميل صور الحرب فهو يجنح إلى (التعبوية) السلبية التي تعري تلك الأيدولوجيَّة ويجعلها محط سخرية ونقد، وهو ما تم ملاحظته في العديد من الأنظمة السياسية منذ القدم وهي تجند العديد من الكتاب لتجميل صورة هذا النظام وافكاره عبر ما يقدمونه من اشكال أدبية متنوعة، وبالتالي أصبحت مثل هذه الأساليب مكشوفة، ففي ظل الانفتاح العالمي الكبير أصبح الفرد قادراً على التمييز وهو يتذوق العسل، ويكتشف ملامح (السم) المدسوس وطعمه قبل ان ينطلي عليه ويمارس (غسيل ادمغة) لذا أصبح مثل هذا الادب محط تندر وسخرية مطلقة وهو ما نراه من ردات فعل ناقدة وساخرة حينما نرى قصيدة مدح إلى شخصيات ومؤسسات تتسم بالفساد أو السلبيات، فالأدب غالباً ما يلتصق بحقوق المجتمعات والافراد وينبثق مع معاناتهم اليومية ويتفاعل مع هذه المعاناة بما ينتجه من نصوص.